برودكاست .. ومزيد من العزلة

برودكاست .. ومزيد من العزلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وميض الضوء الأحمر يتردد في الغرفة، بينما الفجر يتسلل من النافذة، استلت جهاز «البلاك بيري» من جانب المخدة، حركت كرة الجهاز نحو الرسالة «الماسنجرية»، لا بد تلك علياء، توقظني لصلاة الفجر. بنت أبوها «إن الصلاة خير من النوم»، متبوعة برسالة «صباح الخير حبايبي.. قوموا صلوا وادعولنا». قبل النهوض من على سجادة الصلاة، بدأت حصة بتفعيل دور «البلاك بيري» في شبكة التواصل الجديدة والعالم الحميم المشحون بانفعالات بني البشر المختبئة وراء أسماء مُستعارة، ورسائل تارة من الرأس، وأخرى من الكُراس. حفنة من أدعية الصباح للصديقات.. دعاء آخر من وحي الأجواء الغائمة، ومباركة بالرحمة والمطر «ياللي سايرين الدوام ديروا بالكم وهالله هالله في الطريج».. وتنهال بعدها رسائل تغازل الصباح، وتخفف وطأة اليوم

الصبح كنّه بسمتك ساعة تقوم .. ويشابهك يا أعز وأغلى أمنياتي..

الصبح تعريفه هو بداية اليوم.. وإلا أنت تعريفك بداية حياتي..

بعد أن تركت حصة الوظيفة ولم توفق بغيرها، أصبح «البلاك بيري» فلكاً تسبح في فضائه، شاشة تنقلها إلى عالم رحب، وماكينة تضخ أخبار الدنيا وسوالفها عبر مسجات «البرودكاست» الجماعية، حقل النفط الواعد.. الخلوة الوزارية والحكم الصادر في قضية طفل العيد.. أخبار كانت على شاشة جهازها قبل صفحات الجرائد، فهي تستيقظ على وميضه، وتغفو بعد انصراف الصديقات، تدرك من خلاله تحركات صديقاتها، وأخبارهن، دون الاضطرار للسؤال، أو حتى الاستفسار عبر الرسائل الفورية، يمكنها كذلك حصر المناسبات المقبلة والاستعداد لها.

بعد غفوة تستمر حتى «الضحى العود»، تستيقظ حصة مجدداً على وميض «البلاك بيري»، تلقي نظرة على قائمة المحادثات، سارة في «الجيم» مع عفورة، هند في «كلاس العلوم الصحية».. وسعيدان الصغير الساخط على الامتحانات لا يجيب على الرسائل الفورية، فهو كما ذيل اسمه مشغول «في المدرسة الغبية»، وعواشي تستعد لامتحان التربية الإسلامية. أما المناسبات السعيدة، فلها نصيب في أحداث المجتمع التفاعلي.. شيخة بدأت العد التنازلي لحفل زواجها.. ولا بد من فستان جديد. وسلامة على أبواب الشهر التاسع من حملها، و«تبغيلها هدية».

تفرغت حصة بعدها لموجة من الرسائل الجماعية، ولكل يوم حكمة..

حكمة اليوم: إذا انجرحت من شخص عادي.. حط لزقة !

يحرص مستخدمو خدمة «البلاك بيري ماسنجر» على الانخراط في مجتمع تفاعلي، يوفره لهم هذا الجهاز الصغير، يضخون فيه أمزجتهم وذبذبات مشاعرهم على صفحات الرسائل الفورية، والمسجات الجماعية، ويستنفرون خلالها طاقاتهم لخلق جو من المُتعة والتسلية، عبر رسائل كُتبت بمزاج العاطلين عن أي عمل، والمتفرّغين فقط لحراسة ذلك المُجتمع التفاعلي.

بعد العصر، بدأت حصة رحلة «برود كاست» أخرى، أحبت أن تكون مُبتكرة هذه المرة، فهي لا تُرسل إلا المسجات المميزة، أهازيج شعبية سردتها حصة تباعاً بدءاً ب«حمامة نودي نودي».. إلى آخر الأغنية الجميلة.. التي تروي حكاية المفتاح الذي ضاع عند الحداد والعروس وعيالها وحشيش «اليبل». وتملأ صفحات «الماسنجر» بدعوى ترديد الأغاني الشعبية والحفاظ عليها.

حصة: لا يبدو الوقت مناسباً للحديث مع موزة «مشغولة.. في السوق»، وميرة «مزاجي متعكّر..»، أما روضة فغارقة في مسجات رومانسية عند المساء. يبدأ بلاك بيري حصة باستقبال سيل النكات، أما المحششون فهم أبطال حكايات «ماسنجر البلاك بيري» بلا منازع. لم تُفق حصة من عالمها الافتراضي إلا على صوت والدتها: الصلاة يا حصة.

بينما الليل يوشك أن ينتصف.

تبدو التكنولوجيا مرة أخرى في مواجهة مع سلوك البشر، وحدّي السلاح الذي أريد لها أن تكون، أكان يدري صاحب خدمة الماسنجر، أنه يصنع مجتمعاً افتراضياً مترامياً، خلف شاشة صغيرة زادت من عزلة البشر؟

آخر «برود كاست»:

يقول أندريه شينيه «إننا نطيل الكلام عندما لا يكون لدينا شيئاً نقوله»!

أمل الفلاسي

Email