أول محاورة في القرآن بين الله سبحانه و الملائكة

يوجد في القرآن الكريم الكثير من الحوارات، سواء جرت هذه الحوارات بالفعل بين متحاورين، أو أنها جاءت في شكل أدبي حواري، أو أنها قدمت زاداً صالحاً من المعلومات وطرق الحوار يمكن للمحاور أن يستفيد منها في ردوده على المعارضين، أو عرضها على الراغبين في التعرف على الإسلام.

وقد صدر عن مؤسسة دار الهلال ضمن سلسلة كتاب الهلال، كتاب «الحوار في القرآن الكريم» منهجه، آدابه، مقاصده، استطاع خلاله الدكتور محمد أبو ليلة أن ينفذ إلى كثير من المشكلات المعاصرة عن طريق الإسقاط، ومن خلال ربط الماضي بالحاضر، مستخلصاً من ذلك أن المنهج القرآني صالح لكل زمان ومكان وقادر على مواجهة التحديات والأزمات إذا توافرت له مثل هذه العقول التي تمتلك الأدوات وهذا الفهم الصحيح.

يضم الكتاب محاورات الأنبياء عليهم السلام، لكن قبل التطرق إلى هذه الحوارات، يشير المؤلف إلى آداب الحوار وضوابطه وأهميته، قائلاً: الحوار ضرورة شرعية ولا نقول ضرورة مجتمعية أو مدنية أو ضرورة سياسية فحسب، إنه ضرورة شرعية لأن به يمكن أن تبلغ الدعوة إلى الغير، ومن خلاله يمكن أن يتعرف الآخر على الإسلام بل يتعرف المسلمون فيما بينهم على معالم دينهم وقيمه ويتعرفون على ما عند الآخرين..

وبالحوار يمكن أن يتواصل الناس فكرياً وثقافياً فيما بينهم ما يقلل من سوء الفهم ومن النزاعات التي قد تؤدي إلى الحروب. وليس الحوار أن نتحاور مع غير المسلمين فقط أو أن يتحاور المسلمون فيما بينهم فقط، بل على كل فرد أن يحاور نفسه ويراجعها ويحاسبها أولاً، وأن يعمل عقله قبل أن يقول أو يفعل فإن ذلك يساعد على سعة عقله ونضج أفكاره ويجعله أكثر قبولاً لدى الآخرين وأكثر تكليفاً مع نفسه ومع الآخرين.

يذكر المؤلف أول محاورة وقعت في القرآن الكريم بين الله سبحانه وتعالى والملائكة حول خلق آدم يقول تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) كلام الله سبحانه وتعالى مع الملائكة ينحصر في خلق آدم واستخلافه، لأنه قبل خلق آدم لم يكن إلا الله تعالى والملائكة، وصنف آخر من المخلوقات، وهو الجن الذي عاث في الأرض فساداً. والله سبحانه وتعالى هو الطرف الأعلى في الحوار، وهو تعالى لا يراجع، ويتضح من كلام الملائكة عدم الاعتراض على الله ولاشك في حكمته في خلق آدم وجعله خليفة ولا طعن فيه، فإن الملائكة معصومون عن كل ذلك بحكم الخلق..

ينقلنا المؤلف إلى أول حوار وقع على الأرض وكان بين قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام، وأول دم يسفك على الأرض هو دم هابيل، وأول فساد يقع فيها هو جريمة القتل، تصديقاً لنبوءة الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، نجح إبليس في تنفيذ خطته ضد آدم وحواء في حياتهما إذ وسوس لقابيل أن يقتل أخاه دون جريرة، ودون سبب يدعو إلى القتل وكانت أول معصية وقعت على الأرض وكان الدافع إليها الحسد، وكان مع الحسد الظلم والقتل، حسد قابيل هابيل فارتبط الحسد أيضاً بمعصية الله. إذ قرب الأخوان قرباناً لله تعالى، بنية أن يهديهما الله عز وجل أيهما ينكح الأخت المختلف عليها، وهي أخت قابيل وتوأمته، إذ كان من المحرمات أن ينكح الرجل توأمته، لكن قابيل لم يرض بهذا الحكم وأصر على أن يستأثرها لنفسه.

ويبين المؤلف كيف أدار هود عليه السلام الحوار مع قومه من خلال قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ* قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) تأسيساً على هذه الآيات نلاحظ أن كبراء قوم هود لم يقولوا له إنك سفيه وإنما قالوا (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) لأنهم كانوا يعرفون أن هوداً كان حكيماً، لكنهم قصروا السفاهة التي رموه بها على ما خالفهم فيه من أمر الإيمان بالله وما يتطلبه الإيمان من عبادة معاملة وأخلاق.

يقول المؤلف: بعث الله تبارك وتعالى «صالح» إلى ثمود، قبيلة من قبائل العرب العاربة وكانوا يسكنون الحجر، وهو مكان بين الحجاز وتبوك، ودعا صالح قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا عبادة الأصنام واتباع الهوى، وظل صالح ينذر ويبشر وينصح ويذكر، لكن القوم استحبوا العمى على الهدى والجهل على العلم، فأرسل الله تعالى لهم ناقة آية مبصرة ومعجزة ظاهرة للعيان مع إمارات فيها تدل على أنها ناقة الله تعالى وجعلها الله تعالى معجزة صالح، وبرهانه على صدق دعوته، ناقة، لا ندري من أين جاءت، ولا متى عرفها صالح، عندما قال لقومه (هذه ناقة الله لكم).. ثم قال لهم (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) ولكن القوم قد عصوا واعتدوا (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين). وأشرك الله تعالى قوم ثمود جميعاً في مسؤولية عقر الناقة على الرغم من أن الذي عقرها كان واحداً منهم، وما ذلك إلا لأنهم رضوا بذلك وحبذوه (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) وعوقب أهل ثمود بهذا العقاب لتجردهم من الرفق بالحيوان إلى جانب كفرهم وعصيانهم وتمردهم على الله تعالى وعلى رسوله عليه السلام..

ويذكر المؤلف أن قصة نبي الله يوسف عليه السلام من أعجب القصص في القرآن الكريم، وفي الآداب التي أنتجتها العقول الإنسانية عبر التاريخ على الإطلاق ومن هذه القصص، تخطيط أخوة يوسف للتخلص من أخيهم، ولم يكن يوسف بالذي يسمح أبوه بأن يبتعد عن موقع نظره، وكان الأولاد يثقون تماماً في أن أباهم لا يطمئن عليهم، حتى يترك يوسف يذهب معهم، لذلك: (قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون)، ونلاحظ من صيغة السؤال أنهم يحاولون من البداية أن يلقوا من روع الأب أنه يخونهم، ويشك في حبهم ليوسف دون داع، لم يرفض الأب طلب الأولاد رفضاً قاطعاً بل (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف عليه أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) ونلاحظ استعمال عبارتي «إني ليحزنني» و«أخاف» وعبارة «تذهبون به» فيها إشعار بأن يعقوب كان يحس بأنهم سيذهبون به ولم يردوه لأن الباء مع الفعل «تذهبوا» تفيد الانصياع، أو الأخذ دون نية في الرد، وتفيد أيضاً الذهاب بالشيء أو الشخص إلى مكان غير معلوم.

يتطرق المؤلف إلى نبي الله شعيب عليه السلام، قائلاً: بعث الله تعالى نبيه شعيباً عليه السلام إلى أهل مدين، وكان أهل مدين من أسوأ الناس سلوكاً، وأفحشهم معاملة، إذ كانوا يقطعون الطريق على الناس ويرهبونهم، لذلك بعث الله تعالى شعيباً إليهم، رجل منهم، تميز بينهم بالاستقامة والطهر، وكان معرفاً لديهم بفصاحة الكلام وقوة الحجة. يقول الله تعالى في سورة الأعراف (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ).

ويضيف: كان قوم شعيب عليه السلام تجاراً، لذلك فقد حصر دعوته معهم في الدعوة إلى أخلاق التجارة والمعاملات، فدعاهم إلى العدل والإنصاف، في المكاييل والموازين وسائر المعايير المادية والأدبية، وجعل شعيب عليه السلام يرغب قومه في الربح الحلال قائلاً: (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ولم يقبل قوم شعيب هذه النصائح والمواعظ منه، بل ردوا عليه وأغلظوا له في القول، ونابذوه العداء ولننظر فيما قالوه له: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ)، هددوه بالطرد من البلاد، هو ومن معه، إذا لم يرجعوا إلى ملة الكفر، فرد عليهم قائلاً: (أولو كنا كارهين)، حتى ولو كنا نكره العودة إلى الكفر هل تجبروننا على ذلك، ونحن لم نجبركم على الإيمان.

ويشير المؤلف إلى حوار موسى مع فرعون، فيقول: ذهب موسى وهارون لملاقاة فرعون برسالة حددها لهما الله عز وجل في قوله تعالى «فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ»، أمرهما أن يقولا له إن الله تعالى أرسلنا خصيصاً لتخليص بني إسرائيل من العبودية فكان فرعون على موسى قاسياً وساخراً: (قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين)، وصفه بالكفر، أي الكفر بفرعون، وليس الكفر بالله تعالى، لأن فرعون كان يدعي الألوهية، وقد تكون العبارة بمعنى الحق، أي من فرعون على موسى ووصفه بالجحود، ونكران حق التربية، إذ كانت نشأة موسى في قصر فرعون ذلك الحاكم الجبار.

القاهرة ـ دار الإعلام العربية

الأكثر مشاركة