استفسار

آداب الاختلاف في الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ..عبارة نرددها كثيرا ولكن ..هل نعي ما نقوله فعلا وهل نطبق ما ترمي إليه حقا..وهل ثمة من يدلنا على الترجمة المعنوية الحقيقية لهذه المقولة الدارجة وما يقابلها من توجيهات إسلامية راشدة سبقتها بمئات السنين؟

نعم الاختلاف سنّة أرادها الله، وحين جعله الله كذلك، بين لنا أن هناك اختلافاً لا يُقره الإسلام أبداً لأنه يفرّق المسلمين ويمزّق صفوفهم، وأن هناك اختلافاً لا يمنعه الإسلام لأنه يحمل مع الرأي حجة وبينة، ولأنه لا يفرق المسلمين، بل يعين على جمع القلوب والنفوس والصفوف.

معظم اختلافاتنا اليوم مردها إلى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الأمر الذي قد يتطور حتى يصل إلى الفجور في الخصومة ..لأن الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والإسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والأثر يقول:(طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس).

لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سبباً لافتراقهم، إنهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لأن وحدة القلوب كانت أكبر من أن ينال منها شيء، إنهم تخلصوا من العلل النفسية .. وكان الرجل الذي بشّر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بطلعته عليهم وأخبرهم أنه من أهل الجنة، هو الذي جهلوا أمره وعمله فتبين أنه لا ينام وفي قلبه غلّ على مسلم.

أما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فإن معظم مظاهر التوحد والدعوة إليه والانتصار له إنما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيراً عن غيرنا والله تعالى يقول: (وَذَروا ظاهِر الإثْمِ وَبَاطِنه) الأنعام:120.

فالعالم الإسلامي بعد أن كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله أصبح اليوم سبعاً وثمانين دويلة أو يزيد، والاختلافات بينهم لا يعلم مداها إلاّ الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة!

قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها، وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك.

ودليل من أدلة قدرته البالغة، وإن إعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له (وَلوْ شاء ربُّك لجَعل النَّاسَ أمَّةً واحِدةً، ولا يزالون مُخْتلِفين إلاّ مَنْ رَحِم ربُّك ولذلِك خَلقهم) هود:118-119.

إن الاختلاف الذي وقع في سلف هذه الأمة - ولا يزال واقعاً - جزء من هذه الظاهرة الطبيعية، فإن لم يتجاوز الاختلاف حدوده بل التزمت آدابه كان ظاهرة إيجابية كثيرة الفوائد.

وإذا التزمت حدود الاختلاف، وتأدب الناس بآدابه كان له بعض الإيجابيات منها أنه يتيح - إذا صدقت النوايا - التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة، وفي الاختلاف رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها..

كما أن تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب ويسر هذا الدين الذي يتعامل مع الناس من واقع حياتهم.

أحمد عبدالمجيد

Email