حسن التعامل مع الأهل والأولاد من المبادئ الحضارية للإسلام

السنة النبوية وضعت منهجاً شاملاً لترابط المجتمع المسلم

ت + ت - الحجم الطبيعي

أرسل الله تعالى نبيه المصطفى ورسوله المجتبى محمداً، بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أنزل إليه أفضل كتبه الذي هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وشرّف حبيبه المصطفى ، بإعطائه مع القرآن السنة النبوية المطهرة، وجعلها أصلاً ثانياً للدين الإسلامي الحنيف، وكما أوجب الله علينا طاعته أوجب علينا طاعة رسوله، قال تعالى: «من يطع الرسول فقد أطاع الله»، والرسول، دعانا إلى الأخذ بهديه واتباع سنته حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، فالأخذ بالسنة أمر محتم على المسلمين لا محيد عنه.

إن موضوع الحفاظ على القيم الحضارية الأخلاقية والمبادئ العليا في المجتمعات الإسلامية هو موضوع الساعة، لأن هذه القيم باتت مهددة نتيجة الصراع بين تلك المثل وبين الانحلال الفكري والثقافي المتواصل، وإن مما اهتمت به السنة النبوية الشريفة اهتماماً بالغاً، وعنيت به عناية فائقة، إبراز القيم الحضارية في موضوع ترابط المجتمع الإسلامي بين أفراده، فرسمت للمسلمين أطراً عاماً ومنهجاً تاماً، فإن تمسكوا به وساروا عليه زال عنهم ما وقعوا فيه من التفكك والتخلف والتخاصم والتخاذل، وسادت المحبة والألفة والإخاء وعم التسامح والترابط والوفاء.

ولهذه أهمية بالغة في هذا الجانب الحيوي المهم للمجتمع الإسلامي ولاسيما بعد ما تبدل كثير من القيم الحضارية والمثل العليا التي أرساها الإسلام، وتغير النظر إليها تأثراً بقيم واردة وأفكار وافدة على المسلمين.

ترابط المجتمع

لقد اهتم الإسلام والسنة المشرفة ببيان القيم الحضارية في حسن تعامل الناس مع ولي أمر المسلمين، الذي هو صاحب التصرف في شأن الأمة، وبيده زمام أمور الدولة وقيادة الأمة، وحث الرسول أمته على طاعة ولي الأمر في قوله: (من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)، فلا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعته والانقياد له، في المعروف وفي غير معصية الله تعالى، فإذا أمر بمخالفة شرعية فلا سمع ولا طاعة، ولا يجوز الخروج على الأمام بأي وجه من الوجوه بأفكار منحرفة وتأويلات فاسدة، حفاظاً على صيانة المجتمع من الشقاق والفرقة وإراقة الدماء فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه.

ومن المبادئ الحضارية العليا في السنة النبوية حسن التعامل مع الأهل والأولاد، فالزوجة الصالحة هي خير متاع الدنيا للرجل يقول صلى الله عليه وسلم (الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) وقد جعل الإسلام لكل منهما حقوقاً على الآخر، بأدائها تكون أجواء الأسرة موحية بالأمن والراحة لهما وللأبناء ولجميع أفراد الأسرة.

ولاشك أن الأولاد هم زينة حياة الإنسان وهو مسؤول عنهم وعن تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم، والنفقة عليهم يقول الرسول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) والزوجة والأولاد هم أفراد كل أسرة في كل بيت وبصلاحهم تصلح أمور البيت وتستقيم شؤونه، وصلاح البيت هو صلاح المجتمع، وصلاح المجتمع هو صلاح الأمة، وبه تبرز القيم الحضارية العليا في المجتمع، بحصول الوفاق والوئام والمحبة بين أفراد الأسرة.

وأبرزت نصوص السنة المطهرة القيم المثلى في التعامل مع الوالدين وذوي القربى، فالتعامل مع الأب والأم اللذين هما العمودان الأساسيان للبيت له تأثيره الخطير إيجاباً، وسلباً فالأب القائد الذي تقع في عهدته مسؤولية توجيه الأسرة، والوقوف بوجه كل ما من شأنه تهديد كيان الأسرة، والأم لها الدور الأكبر في توجيه الأولاد الوجهة الصحيحة، وإن أعظم الحقوق بعد حق الله تعالى حق الوالدين.

وقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه في غير آية، وحق الأم أعظم من حق الأب فهي تستحق من الولد الحظ الأوفر من البر؛ فالعلاقة المتينة والترابط الوثيق بين الولد ووالديه هما مصدر الاستقرار في البيت، وهما المنهج السليم في مجال التربية والتهذيب، ليعيش على الفضيلة مساهمين مساهمة فعالة في بناء المجتمع الفاضل.

وبينت السنة أن العلاقة الطيبة بين الأرحام والأقرباء الأقرب فالأقرب، سبب الترابط والتآلف والتلاحم والتعاون بينهم، ودافع قوي لحصول الاستقرار الأسري والاطمئنان النفسي لجميع الأفراد، ثم للمجتمع برمته.

والسنة أولت اهتماماً بالغاً بحسن التعامل مع الجيران، وبينت حقهم بياناً شافياً، مما يدل على وجوب تفقد حاله والإحسان إليه ففي الحديث (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) فحفظ حق الجار والصبر على ما قد ينال منه من كمال الإيمان، وسبب الترابط وحسن العلاقة بين الجيران، وإذا ساد بينهم الحب والوئام سعد المجتمع كله.

ويجب على المسلمين جميعاً أن يكونوا أحباء أصدقاء متكاتفين فيما بينهم، وأن يتحلوا بالآداب الإسلامية الحميدة الكريمة، ليكونوا جسداً واحداً وأمة واحدة، وفي الحديث (المسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وإن الذي يعامل الناس معاملة حسنة بلطف وطلاقة وجه يكون في عيشة راضية، في جنة عالية، وصدق المؤاخاة مع الناس هو سبب تأليف القلوب بين الناس، ووسيلة السعادة والفلاح في الدارين.

ومن شيم الإسلام الرفيعة إفشاء السلام بين المسلمين جميعاً، وهو من أفضل الأعمال التي تؤدي إلى الترابط ونشر المحبة والوئام بين أفراد المجتمع المسلم، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة على مشروعيته وفضله واستحبابه وآدابه، منها قوله صلى الله عليه وسلم (أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) ليسود الترابط والإخاء في المجتمع.

ومن القيم الكريمة التي اعتنى بها الإسلام أن يكون المسلم حَسَن التعامل مع الخدم فقد جاءت وصية الرسول في حسن معاملة العبيد والخدم وتقدير ظروفهم، وبيَّن أنهم إخوان لهم جعلهم الله تحت أيديهم، فقال (فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)، وصية كريمة رائعة نابعة من مشكاة النبوة، ومن وحي يسر الدين الحنيف، فلا يجوز سوء المعاملة مع المستخدمين ولا حرمانهم من حقوقهم، ويكره التطاول على الرقيق والخادم واستعمال الألفاظ الجارحة لشعورهما.

ومما يدل على كمال الإسلام بحضارته وقيمه العالية وتعاليمه السامية اهتمام السنة النبوية ببيان كيفية التعامل مع غير المسلم، حيث إن المسلمين في أول عهدهم بمكة عايشوا المشركين، وكانوا يتعاملون معهم في كثير من شؤون الحياة، وكان رسول الله مثالاً يحتذى في حسن تعامله وعدله ورحمته مع مختلف الفئات من غير المسلمين، وكانت حياته تجسيداً عملياً لكل ما كان يدعو الناس إليه من حميد الصفات وكريم الأخلاق، وكان يتلطف مع المسالمين والضعفاء من اليهود.

وقد يضطر المسلمون إلى استقدام غير المسلمين في البلدان الإسلامية، للضرورة كالماهرين في تخصصات علمية وتقنيات نادرة، وليس لدى المسلمين من يقومون بهذه الأعمال، ولا بد لنا أن نعامل هؤلاء معاملة خاصة تخدم الدعوة الإسلامية، فينبغي الرفق بهم وعدم الفحش معهم، لتظهر سماحة الإسلام وسمو تعاليمه، والإسلام اهتم بحقوق جميع فئات المجتمع، ليستتب الأمن والرخاء.

2 ـ العوامل التي تساعد على ترابط المجتمع والعوامل التي تساعد على تفككه كما وضحتها السنة النبوية.

صفات حميدة

إن القيم الحضارية والشيم الإسلامية في السنة النبوية المطهرة واضحة في منهاجها، كاملة في أهدافها ومقاصدها، حيث عنيت أيما عناية ببيان الصفات الكريمة الفاضلة الدالة على معالي الأخلاق، والمرشدة إلى مبادئ المكارم، والمعينة على تقوية الصلات والروابط بين المسلمين، ومن هذه الصفات: الصدق والوفاء والأمانة والصبر والرفق والتواضع: فكل هذه صفات حميدة من صفات المؤمنين الأبرار، والتزام الشخص بها في جميع تصرفاته يجعله موضع احترام الجميع، ويكون محبوباً لدى الناس، ومقرباً عند الله تعالى وهي مصدر الفلاح، ومنبع الخير والصلاح، ما ارتفعت الأمة إلا بها.

والمجتمع الذي تتفشى فيه هذه الخلال يسود فيه الحب والإخاء والترابط بين أفراده، لأن الله بعث نبيه محمداً رحمة للعالمين، وكان أوسع الناس خلقاً، وأكرمهم سجية، وأخصهم ملازمة للفضائل الزاكية والأخلاق العالية، فالخير كل الخير والفلاح كل الفلاح في الصبر والرفق واللين والوفاء وهذه الصفات هي سبب التآلف والتحابب والترابط بين إخوانه المؤمنين وخصوصا الصبر إذ له أهمية كبيرة في الإسلام، فهو من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وفي الحديث (فلا إيمان لمن لا صبر له) وقد أوذي النبي أشد الإيذاء فصبر وتحمل وقال: (قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر)، وتعين هذه الصفة الحميدة على نشر المحبة وتآلف القلوب بين أفراد المجتمع، واتصاف الشخص بها دليل على سعة صدره وكمال عقله ورزانته في التصرف.

ومما يوطد العلاقة بين المسلمين عيادة المريض وتفقد أحواله والسؤال عن علته، ففيها فضل عظيم وأجر كبير لما فيها من تخفيف عما أصابه وتطييب لخاطره، وترسيخ للأخوة والمحبة بينهما، وكان هدي النبي أن يزور أصحابه المرضى مواساة منه لهم ورحمة بهم، وبالإتيان بهذه الآداب والسنن لعيادة المريض يسود الحب ويتحقق التعاون والتآلف والتراحم والترابط بين أفراد المجتمع الإسلامي.

ومن شيم الإسلام النبيلة وقيمه الحضارية الجليلة الإخاء والحياء، حيث أرسى الإسلام دعائم الأخوة الإسلامية بين أبنائها، وهي أقوى من كل رابطة بين الناس،أخوة أساسها التقوى والعقيدة والإيمان،لا تتغير بتغير الأحداث والأزمان، ولا تختلف باختلاف الأقوام والأقطار،والأمة الإسلامية أمة واحدة، والمسلمون جسد واحد كالبنيان المرصوص، وأروع صور المؤاخاة والتلاحم بين أبناء الأمة الإسلامية، وأشهرها في التاريخ، مؤاخاة النبي بين المهاجرين والأنصار عند ما هاجر إلى المدينة، وكيف لا يكونون كذلك وقد سمعوا من النبي قوله: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).

فالأخوة الإسلامية لها مكانة سامية في الإسلام، يتحقق بها الترابط والتماسك في المجتمع الإسلامي، وتتجلى القيم الحضارية التي تحمي المجتمع من أشكال الانحراف، ويتحقق التكافل والتضامن الاجتماعي. فللمسلم على إخوانه المسلمين حقوق وواجبات يجب أداؤها ومراعاتها؛ ليستقيم الأمر ويستتب الأمن ويسود الاستقرار في المجتمع، وقد تباعدت القلوب في هذا الزمان تباعداً خطيراً بسبب تكالب الناس على الدنيا ومتاعها، ولا ينظرون إلى الحياة إلا بمنظار المصلحة الشخصية.

صفات ذميمة

لما كان التحلي بمعالي الأخلاق ومكارمها يستلزم ضرورة التخلي عن مذمومها، كان لابد من إبراز هذه الأخلاق السيئة التي تحطم صروح القيم ومكارم الأخلاق، وجعلت الحضارة الإسلامية تهتز من قواعدها وأصبحت القيم العليا تحني رأسها خجلاً من تفشي هذه العادات في المجتمعات، فقد حذرت السنة النبوية عن الغيبة والنميمة، وهما خصلتان محرمتان من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، ومن الأمراض الاجتماعية الخطيرة الفتاكة، التي تفرق بين الأحباب، وتبث السموم في المجتمعات.

وجاء في الغيبة والنميمة ومخاطرهما وعيد شديد في أحاديث صحيحة؛ منها قوله (إن شر الناس ذو الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) لما يترتب عليهما من المضار الجسيمة، والأحداث الأليمة، والنتائج الوخيمة، وذلك نابع عن الحسد والضغينة المتأصلة في النفوس المريضة فيجب على المسلم حسن الظن بالمسلمين، والتثبت والتروي في تصديق كل ما يسمع.

وجاءت نصوص السنة النبوية بالزجر والوعيد عن الكذب وهو صفة ذميمة وذنب كبير، وهو من سمات أهل النفاق، ينبذه أصحاب الطباع السليمة الراشدة، وأشده خطراً الإدلاء بالشهادة زوراً وبهتاناً لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة والمخاطر الجسيمة، وأفظع من ذلك كله وأكثرها خطورة وضرراً، الكذب على الرسول بقوله: (من تعمد عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار)، فالكذب خصلة خسيسة وصفة دنيئة، تؤدي إلى تفكك أوصال المجتمع الإسلامي.

الدكتور إكرام الله إمداد الحق عبد الرحمن

أستاذ مساعد بالقسم العالي بمعهد الحرم المكي الشريف

Email