شيخ الأزهر: واجب على كل من يملك الاستطاعة

الحج المبرور رحلة إيمانية لترويض النفس وتعويدها على الطاعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحج فريضة فرضها الله تعالى علي عبادة المسلمين لترويض النفس وتعويدها على الطاعة، ورغبة منه سبحانه وتعالى في تطهير نفوس عباده، وجمعهم في مكان للإعلان عن السمع والطاعة بدون اتكال أو تواطؤ فهي فريضة يراها الفقهاء عبادة العمر وختام الإسلام وكمال الدين، تلك الرحلة الإيمانية التي تهفو إليها أفئدة كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وصولاً بهم إلي الغاية السامية وهي تقديم سلوك الحاج وتحقيق خيرية حياته وصلاح نفسه وقلبه وعقله.

فلسفة الحج في أساسها تقوم على نقل المسلم من حياته اليومية الرتيبة التي يجد فيها الشيطان فرصاً كثيرة لإغواء الإنسان إلي حياة يغلب عليها الروحانية الحالمة التي تذوب طاعة وحباً في خالقها ـ خالق السموات والأرض ـ ومن ثم لا يجد الشيطان فرصة سانحة لإغواء هذه النفوس التي تدمن الطاعات في هذه الأيام في الأماكن المقدسة، فيكون المسلم طائعا ورعاً في حجه ليعود مرة أخرى إلي حياته العادية، ليجد شرع الله يخبره بأنه لو أراد الفلاح والنجاح لابد له من الاستمرار في الطاعة وترك كل أشكال المعصية، ولذلك فالحج عبادة وكمال الدين.

يقول د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الشريف: الحج أحد فروض الإسلام الخمسة التي شرعها الله سبحانه وتعالى على المؤمنين به، وهو رحلة إيمانية أوجبها الله تعالى على المستطيع من عباده المؤمنين بوحدانيته لتكون أخلاقياتها وسلوكياتها منهجا لهم في كل شئون حياتهم، سواء كانت أفعالاً أو أقوالاً فغاية الحج ليست مجرد مناسك وشعائر يؤديها الحاج في وقت معلوم ومكان مشهود، ولكن غايته أن تصير أخلاقياته نموذجاً يحتذي به في سلوكياته ومعاملاته بعد عودته من هذه الرحلة.

ويوضح د. طنطاوي أن الحج فريضة إسلامية فرضها رب العزة علي عباده، لتكون ضابط للسلوكيات ومحدد للتصرفات التي تصدر من المسلم ، فالمسلم يجب عليه أن يصفي نفسه قبل عودته من حجه، وأن ينوي التوبة عن كل ما يغضب الله تعالى ليكون حجه مبروراً وليغفر ذنبه فيكون عائداً من هذه الرحلة كمن ولدته أمه.

ويضيف د. طنطاوي: إن غاية الحج تمتد إلى ما بعد أداء مناسكه وشعائره، لأن ثواب الحج مشروط بما سوف يصدر عن الحاج من سلوكيات عقب عودته من حجه، فالمسلم لكي يكون جزاءه الجنة يجب أن يجعل من هذه الرحلة الروحانية بداية له للسعي الجاد وراء إرضاء الله تعالي بحسن عبادته والابتعاد عما يغضبه.

ويقول الشيخ محمد حسن فتح الله بالأزهر الشريف: الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، أوجبه الله سبحانه وتعالي علي المستطيع من عباده في قوله تعالي «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».. وهو عبادة العمر وختام الإسلام وكمال الدين، وهو رحلة إيمانية وليس مجرد مناسك وشعائر يؤديها المسلم.

بل شرعها الله تعالى لتكون منهجا لحياة الحاج بعد عودته، وذلك بأن يتحلى بأخلاقيات الحج وآدابه طيلة حياته، حتى يكون حجه مبرورا ثوابه الجنة، ويعود على صاحبه بالبر والخير والنفع في دنياه وآخرته، تصديقا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.. قيل وما بره؟.. قال إطعام الطعام وطيب الكلام».

وعلى الحاج أن ينتهج أخلاق الحج بعد عودته بأن يأكل الحلال ويتجنب الحرام، ويمشي بين الناس متجردا عن الشهوات وقول الزور، وكل ما يفسد حياته من المحرمات والمحظورات، فغاية الحج أن تكون الصلة بين الإنسان وربه صلة ممتدة متصلة لا تنقطع أبداً، لأنه وصل نفسه بربه سبحانه وتعالى بالطواف والسعي حول رموز جعلها الله تعالى رموزاً للطاعة والعبادة.

كما أن الحج يعتبر تدريبا للإنسان المسلم على تطبيع سلوكياته وأفعاله مع أوامر الله ونواهيه بعد العودة من أداء شعائر الحج، بحيث تكون أعمال الإنسان كلها خالصة لوجه الله تعالى، ولا يفعل إلا طيب الفعل ولا يتحدث إلا بطيب الكلام، ولا يتحلي إلا بمكارم الأخلاق حتى تكون علاقته بخلق الله تعالي علاقة طيبة كريمة، وحتى يحقق المراد من فريضة الحج التي جعلها رسول الله صلي الله عليه وسلم من أفضل الأعمال حينما سئل عن أفضل الأعمال، فقال: «إيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله ثم حج مبروراً».

ويقول د. علي أبو دومة بجامعة الأزهر: حرص الإسلام الحنيف علي تربية أخلاق الأمة، وتهذيب سلوك أفرادها، من خلال فرائض شرعها علي المؤمنين به، وقد اجتمعت هذه الفرائض على غاية سامية لصلاح حال حياة الإنسان وتعديل سلوكه، ليكون فرداً نافعاً لأهله ولإسلامه..

والحج -باعتباره أحد هذه الفرائض- يسعى بالمسلم للوصول إلى هذه الغاية السامية، فهو ليس مجرد رحلة أو نزهة أو مجرد تأدية مناسك وشعائر معينة، بل هو منهج متكامل لتقويم سلوك الحاج، ولتحقيق خيرية حياته وصلاح نفسه وقلبه وعقله، وهذه هي الفلسفة العميقة لفريضة الحج، والتي لا تكتمل إلا بالاستمرار علي منهج الإسلام في الحياة.

وتطبيق مبادئه وقواعده على معاملات الإنسان مع أخيه الإنسان، وذلك بتعديل السلوك الإنساني من القبح إلي الحسن، ومن الباطل إلى الصواب، ومن الظلم إلى العدل، ومن القسوة إلي الرحمة، ومن الأنانية إلي الإيثار، ومن التفرق إلى البر والتعاون، إلى غير ذلك من الفضائل التي ينبغي أن تتحول إليها تصرفات ومعاملات الحاج، بعد أن تشبعت نفسه بجرعة إيمانية اكتسبها من عظمة شعائر الحج.

وكذلك ينبغي على الحاج أن يعلم أن ما كان ملتزما به من الفضائل والسلوكيات أثناء الحج، فهو مطالب بأن يحافظ علي التزامه بها بعد عودته، حتى يكون حجه مبرورا، والذي قال في شأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس له جزاء إلا الجنة»، كما أن تحذير الله تعالي في كتابه الحكيم بقوله جل شأنه:

«الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».. ليس فقط تحذيرا وقتيا أثناء الحج، ولكنه يستمر قائما ويطالب به الحاج طيلة حياته، حيث إن هذه أمور تعد مدخلا للسوء والشيطان، وبها يفقد الحج غايته في السمو بالإنسان.. ولهذا كان أمر الله تعالي للحاج بعد عودته للتزود بالتقوى، فقال جل شأنه: «وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب»..

فالحاج الذي أدي فريضة ربه علي طاعة خالصة لله، وراعي حقوق إخوانه، ولم يرفث ولم يفسق ولم يرتكب إثما، فإن الله سبحانه وتعالي يكون قد عفا عن ذنوبه السابقة، فيعود إلي أهله في صورة مولود جديد لم تدنسه الحياة، ومن ثم يكون تعديل السلوك ليس أمرا صعباً..

وحينئذ علي الحاج أن يبدأ حياة جديدة بعد عودته، حياة مملوءة بالعطاء والنقاء والبراءة، فيستقبل الحياة بكل إخلاص في العمل والعبادة ويسلك سلوكاً جديداً في كل شيء في القول والفعل وسائر معاملات الإنسان في حياته، وهذه هي غاية الحج وفلسفة فرضيته على المسلمين.

أما د. أماني عبد القادر أستاذة الفقه والشريعة بجامعة الأزهر.. فتقول: الحج عبادة روحية وبدنية، يمتد خيرها وثوابها إلى آخر عمر الحاج، بشرط إدراك غايتها والمراد من فرضيتها، بالعمل علي كل ما يحقق الخير والسعادة للمسلم ومجتمعه فهو- أي الحج - جهاد في حياة الإنسان من أجل البر وحسن الأخلاق مصداقا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج».

والحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وأن يعود الحاج زاهدا في ملذات الدنيا الشهوانية، راغبا في نعيم الآخرة، فعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم يعتق الله فيه عبداً أكثر من يوم عرفة»، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الحسنة في الحج بسبعمئة حسنة والله يضاعف لمن يشاء»، وذلك لما يتحمله الحاج من مشقة السفر والبعد عن الأهل والانقطاع عن شهوات النفس.

ولكن كل هذا مشروط بما يجب على الحاج بعد عودته، من ضرورة الالتزام بفضائل الأخلاق وحسن التعامل مع الغير، حتى يتحقق فضل الله علي الأمة الإسلامية، حيث جعل لها الحج منفذاً لتطهير النفس، لتنال رضا الله وثوابه، فالحاج بحجه يكون قد عاهد الله سبحانه وتعالي على البر والإخلاص والتقوى طيلة حياته، وعليه أن يحافظ على عهده الذي فيه الصلاح والفلاح، تصديقا لقول الله تعالي: «أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم».

وتقول د. سعاد صالح بكلية الدراسات الإسلامية والعربية: جاء القرآن الكريم والسنة النبوية بدعوة أخلاقية من عند الله، تتمثل في المحبة والإيثار والعطاء والرحمة، وتلك أخلاقيات عامة يجب علي كل مسلم أن يتحلي بها، والحج كفريضة إسلامية عبارة عن شعائر ومناسك تعبر عن تلك الأخلاقيات، ولذا فعلى الحاج أن يتحلى بها ليس فقط أثناء تأدية شعائر الحج، بل لابد أن يظل محتفظا بالتخلق بها إلى آخر يوم في حياته، حتى يكون قوام الأمة الإسلامية هو التعاليم الفاضلة والقيم المثلى، فبدون هذه القيم وتلك الفضائل الرفيعة ما كان للحج هيبة روحية في نفس المسلم.

ويقول د. عبد الله بركات عميد كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر: قال النبي ـ صلي الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».. وقد فسر العلماء والفقهاء «الحج المبرور» بقولهم: هو ما يكون حال الحاج بعد الحج أفضل مما كان عليه قبل الحج..

فغاية الحاج ليست فقط في أداء مناسكه وشعائره، بل إن غايته ـ أيضا ـ لصلاح حال الحاج بعد حجه، وتقويم سلوكه وتربية نفسه علي التقوي وحسن الأخلاق وطيب المعاملة، ومن الحكم المأثورة «علامة قبول الحسنة، الحسنة بعدها».. وعلى ذلك يجب علي الحاج إذا عاد من هذه الرحلة المباركة أن يحافظ علي ما اكتسبه من حسنات، وما ادخره عند الله من درجات بالاستمرار في عمل الصالحات والتخلي عما يبعده عن الله عز وجل من معاص ومنكرات.

ولما كان للحج مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، غرسها في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. فهذا يقتضي من الحاج أن يكون على مستوى هذه المكانة العظيمة، سواء كان ذلك أثناء تأدية مناسك الحج أو بعد عودته إلى أهله وبلده، وهذا لا يكون إلا بالحرص علي التخلق بأخلاقيات الحج وآدابه، حتى يتحقق الفلاح للحاج وأهله ومجتمعه، ليفوز بذلك برضوان الله تتويجا لرحلة العمر.

فالحج ميلاد جديد للمسلم يبدأ بعد العودة إلي الأهل والوطن، وعلى الحاج أن يستثمره لما فيه الفلاح والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.

ويشير د. محيي الدين الصافي بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر إلى ضرورة أن يعلم الحاج بعد عودته أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وعاد بشهادة ميلاد جديدة، وذلك مصداقا لقول عن الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم ـ من أن الذي يوفقه الله لأداء فريضة الحج ثم يسلم من الوقوع في الفسوق والرفث والجدال، يكون ذلك بمثابة ميلاد جديد له، فيعود وقد تطهر من كل سوء كأنه وليد جديد.

فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».. وعليه ينبغي على الحاج بعد عودته أن يكون إنسانا جديدا بعد أن طهر نفسه من الخطايا والآثام، وألا يقول ولا يفعل إلا ما فيه الخير لنفسه ولأهله ولدينه حتي يحقق بذلك القصد الإلهي من فريضة الحج.

ويقول د. الصافي: الحج أمنية لكل مسلم تتشوق نفسه إليها مهما تباعدت به الديار، وتظل أطياف هذه الزيارة تداعب خياله ويملأه الحنين إلى بيت الله الحرام قلبه.. والحج فرصة للمسلم كي يتدرب على عفة اللسان والبعد عن الجارح من الكلام المسيء للمشاعر والأحاسيس، ذلك النهج من الحديث الذي يدعو فيه الإسلام المسلم أن يترفع عنه بعد عودته من الأراضي المقدسة، فالحج فرصة للتدريب العملي على صيانة اللسان والتحلي بمكارم الأخلاق.

وأخذ النفس بالسلوك السوي حتى يعتاد المسلم ذلك في كل أمور حياته وحينئذ يهيئه الحج لأن يكون نموذجا فذا للانسانية الراقية والأخلاق الطيبة، والهادية إلي الصراط القويم، كما قال الله عز وجل.. في سورة الحج: «وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد»، ومن ثم ينبغي على الحاج بعد عودته أن يعف عن القبيح ويقبل على الحسن الخير من الأقوال والأفعال والتصرفات والمعاملات مع أقرانه.

القاهرة ـ وكالة الصحافة العربية

Email