عبادة روحية وبدنية واجتماعية ومالية

الحج رحلة روحانية يتحد عليها جميع المسلمين

ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي الحج هذه الشعيرة الطاهرة التي فرضها الله تعالى على عباده المسلمين لتكون رحلة روحانية يتحد عليها كل المسلمين ويبذلون جهداً في أدائها متفقين في أركانها وفروضها، هذه الرحلة المباركة التي يحج فيها الناس الى أطهر بقاع الأرض تلك الأرض التي شهدت نزول القرآن الكريم كتاب السماء الأول الذي فرق الباطل عن الحق، هذه الأرض التي أمر الله تعالى خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأن يأخذ ولده نبي الله إسماعيل ويتركه فيها الذي يعاونه بعد ذلك في بناء مسجد الله الحرام في هذه الأرض، ليكون هذا المسجد قبلة كل المسلمين في صلاتهم وفي حجهم.

هذه الفريضة التي شرعها الله تعالى على عباده المسلمين لتكون شرطاً لإتمام الإسلام عند كل مستطيع، ووسيلة لتحطيم كل فوارق الحياة الدنيا، فلا فرق فيها بين غني وفقير ولا بين حاكم ومحكوم ولا بين سادة وعامة الجميع فيها يمارسون سلوكاً عملياً في الصبر واحتمال المشاق، ليشهدوا منافع لهم في دينهم ودنياهم.

فإذا كانت الصلاة عبادة روحية، وللبدن فيها نصيب، والصوم عبادة روحية، والزكاة عبادة مالية، فإن الحج عبادة مالية روحية بدنية تشمل كل العبادات، وكذلك الحج عبادة اجتماعية يجتمع عليها ألوف مؤلفة من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأشكالهم، فالكل يتخذ الكعبة وجهة واحدة.

وتحفل شعائر الحج بالروحانيات، فالبركة والهدي في بيت الله العتيق وفي حرمة أسرار ومنح يفيضها الله على حجاج بيته المكرم، فجميع من يقصد بيت الله الحرام لا شك ينتفع، ولما كانت معلومات الإنسان قليلة فهي قاصرة عن إدراك الحكمة فيما أراه الله به من عبادات وذلك فهو مطالب بأداء العبادات كما أمر الله، وليس مما يمنع من النظر ففي الحكمة من أدائها عن قدر ما نال من علم، وخلال هذه الأيام المباركة تتجه أنظار المسلمين وقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها الى أرض الحرمين الشريفين حيث أطهر بقاع الأرض، والتي أعدها لتكون أكمل دين ارتضاه لعباده حتى يقبض الله الأرض ومن عليها ليجزي كل نفس بما عملت.

وقد أثبتت دراسة أجراها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أن المؤمن يكفيه أن يعرف ويشعر بأنه يقوم بأداء تلك الشعائر طاعة لله واستجلابا لحسن الثواب وغفران الذنوب.

وذهبت الدراسة الى أن الكعبة تمثل جهازاً للعلاج الروحي، مثل أجهزة العلاج بالأشعة، والذي أقام الكعبة على ما هي عليه ملائكة الله بأمر الهي، فهو سبحانه الذي جعل سحابة تظل إبراهيم وإسماعيل وتحدد لهما حدود البيت الذي رفعا قواعده، فإذا الكعبة على هيئة غرفة مربعة وبجوارها من حدها الشمالي نصف دائرة حجر إسماعيل يحيط به جدار بارتفاع متر وثلاثين سنتمترا.

أسرار الحج

وعن أسرار الحج وروحانياته، يقول فضيلة الشيخ الشعراوي: إن الحج إعلان بتمام نعمة الله على الإنسان وتمام نعمة الله في عطاء الربوبية وعطاء الالوهية لأنك ما حججت إلا عن قدرة بنعمة الله، فعندما ينادي الناس: الحاج فلان.. نعلم أن الله قد أنعم عليه نعمة زادته إيمانا بالله، وإيمانا برسوله فهو ما دام قد قدر أن يحج فلابد أن يكون قدر أن يصلي وقدر أن يصوم وقدر أن يزكي، فالحاج لابد أن يستوفي كل أركان الإسلام ليكون متمشياً مع قول الله تعالى: »اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً«.

ويرى الشيخ الراحل أنه لابد أن نفهم فلسفة هذه الشعيرة، أنت في الحج تقبل حجراً وترجم حجراً.. حتى تعرف أن العلة في الأمر في الإيمان.. في الطاعة فالله هو الذي قال: قبل هذا وأرجم هذا، فلا في التقبيل تفضيل ذاتي ولا في الرجم تفضيل ذاتي ولكنها طاعة لأمر الله، ولذلك فهي لا تخضع لفلسفات العقل ولكنها تخضع لطاعة الإيمان.

إذن فأول شيء حين تبدأ رحلة الحج هو التلبية.. استجابة لدعوة إبراهيم عندما أذن في الناس بالحج.. ثم بعد ذلك تتجرد من كل ما يضع في نفسك ميزة الكبر على غيرك من الثبات الفاخرة تتركها.. والبيت المعد إعدادا خاصاً لراحتك تهجره، والأولاد والأصدقاء وأقاربك ومن ينصرونك تبتعد عنهم وتذهب الى بيت الله الحرام وأنت محرم تارك الدنيا وراء ظهرك.. ليس على جسدك سوى قماش غير مخيط، فإذا أخذت هذه المساواة بينك وبين كل عباد الله، فإن الله يعلمك أن تتأدب مع كل أجناس الأرض كلها، عندما يدخل الحاج بيت الله الحرام ويطوف حوله تجد الدموع تملأ عينيه.. لماذا؟

ويجيب الشيخ الكبير: كثير من الناس لا يعرفون السبب ولكن البكاء في هذا المشهد هو غسل لكبرياء عاشه، وعلى قدر كل دمعة كان هناك كبرياء، ولذا كان البكاء مظهراً من مظاهر الضعف والحزن، فإنه في الحج ليس كذلك،إنه إحساس بالخضوع والعبودية، إحساس بأن الحاج وهو العبد الذي تخلى عن كل شيء وأتى الى هذا المكان يريد أن يعلن عن ندمه، فرحة لا حزنا، وقوة لا ضعفا، فالاعتراف بالذنب قوة، وطلب الرحمة والمغفرة..

والغريب أن الحاج يشعر بعد أن يبكي أن نفسه ارتاحت قدر ما أسرف على نفسه، وعلى قدر ما خالف، والعجيب أنه بعد أن ترتاح نفسه يشتاق مرة أخرى الى أن يعود الى ما يبكيه، فيأتي مرة ثانية وثالثة الى الحج، ولكن ليس في كل مرة يبكي كما بكى في المرة الأولى.

ويفسر الشيخ الشعراوي تلك النقطة قائلاً: البكاء في المرة الأولى بحرقة وغزارة، وفي الثانية يكون أقل، وفي الثالثة أقل.. ذلك أنه في كل مرة يزداد صفاء ويزداد اعتدالاً في منهجه من الحياة.

شروط الحج

ويقول د. أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق: إن الحج لغة هو القصد وشرعاً قصد البيت الحرام لتأدية المناسك.. لذلك فهو فرض على كل مسلم ومسلمة لقوله تعالى: »ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً« فهو واجب مرة واحدة في العمر تصديقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم »يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا« فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قالها الرجل ثلاثاً فقال الرسول صلى الله عليه وسلم »لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم«.

ويستطرد د. هاشم قائلاً: ويشترط الحج والإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة، أما أركانه فهي الإحرام والطواف والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة، وإذا كان المسلم صحيح البدن وليست لديه موانع ويمتلك مالا يفيض عن حاجة من يعولهم، والطريق مأمون فقد توافر بالنسبة له شرط الاستطاعة، أما المرأة فقد أضاف الأحناف والحنابلة لشروط الاستطاعة أن يكون مع المرأة زوج أو محرم بالغ عاقل، إذا كان بينها وبينه مسافة سفر، معتمدين في ذلك على حديث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحرم على الزوجة السفر الذي يطول مسيرته عن يوم بدون محرم.

ويواصل د. عمر هاشم كلماته قائلاً الحج يفتح أبواب الخير، وينفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والحديد.. تطبيقاً لقول الرسول: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينقيان النفر الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة.

ويطالب هاشم بضرورة أن تكون نفقة الحج من حلال، موضحاً أنه : يجب على المسلم أن يتحرى بكل دقة المال الحلال حتى تكون حجته مقبولة.

المساواة بين البشر

ويؤكد د. شوقي الساهي أستاذ الدراسات الإسلامية أن مناسك الحج تؤكد مبدأ المساواة بين المسلمين فمنذ اللحظة الأولى لأدائها.. وتتجلى هذه المساواة في تحديد وقت المناسك، فأعمال الحج لها وقت معلوم لا تصح في غيره وهو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ففي هذا الوقت يتسابق الذين تسيطر الأشواق على قلوبهم الى تلبية نداء الرحمن طمعاً في جنته ورضوانه وخوفاً من ناره وعذابه.

ويقول فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم : أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يرفع هو وابنه إسماعيل القواعد من البيت، وانه لشرف لا يعدل، وتكريم لإبراهيم على إيمانه بالله، وإذعانه لمولاه ومبادرته الى إنقاذ رؤياه، وما أن حدث إسماعيل بما رأى حتى كان أسرع من رجع الصدى، يقول لأبيه: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه لما فرغ إبراهيم من بناء البيت بعث الله جبريل فحج به، وهل أمر الله ببناء البيت ليحجه الناس، ويلتمسوا ما قرنه الله به من منافع الدين والدنيا؟..

أما فضيلة الشيخ علي حامد عبد الرحيم فيقول: إن الحج الى بيت الله الحرام رحلة ربانية نورانية، تهفو إليها القلوب، وتحن إليها الأرواح، وتتحطم فيها فوارق الحياة الدنيا، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين سادة وعامة، يمارسون سلوكا عملياً في الصبر واحتمال المشاق، ويشهدون منافع لهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، فهم الذين استجابوا لدعوة ربهم حين قال : (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً).

ويضيف مفسراً : هذه المنافع عامة وواسعة تتناول جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وقمة المنافع الروحية هي توجيه الناس جميعاً لتوحيد الله عز وجل، وعبادته دون سواه.

ويستطرد الشيخ قائلاً: في مناسك الحج تأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أعلم الناس بعزمه على الحج فتجهزوا للخروج معه، وسمع من حول المدينة فأقبلوا يريدون الجمعة، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، وكانوا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وكلهم يلتمس أن يأتم برسول الله، ويعملوا مثل عمله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد أن صلى بها الشهر، فنزل بذي الحليفة فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى المغرب والعشاء والصبح والظهر ثم اغتسل غسل الإحرام، ولبس إزاره ورداءه وتطيب، ثم ركب ناقته على البيداء، وأهل بالحج والعمرة.

القاهرة- حازم خالد

من: وكالة الصحافة العربية

Email