دعوة إبراهيم لأبيه

دعوة إبراهيم لأبيه

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأ سيدنا إبراهيم دعوته لأبيه بالقول اللين والخطاب الجميل فلم يسفه معبوداته وذكره بنبوته ليستثير عطفه ويمس شغاف قلبه فكرر نداءه أربع مرات متتالية سأله عن عكوفه على عبادة الأصنام مع عجزها : ( إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً) الشعراء:70-82.

توسل إليه أن يتبعه فهو مع صغره أوتى حظاً من العلم لم يصل إليه.

(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) مريم:43.

أبان له أن الانقياد للأصنام عبادة للشيطان وهو عدو لا يرشد إلى خير.

(يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً) مريم:44.

خوفه من سوء المصير في أدب واستعطاف فلم يصرح بأن العذاب لاحقه وإنما أعلن خوفه عليه.

( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً) مريم :45. لكن آزر تجاهل نبوته وأنكر عليه حدبه ونصحه.

(قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لا رجمنك واهجرني مليا) مريم:44.

قابل إبراهيم تهديد أبيه بصدر رحب وتلقى وعيده بنفس مطمئنة وأجاب بما يدل على البر وإخلاص النصح.

(قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً).

استدرجهم إلى المجادلة والمحاورة ليحملهم على الإقرار بارتكاب الجرم والاعتراف باقتراف الذنب فسألهم (ما تعبدون؟ قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين) الشعراء:71.

بين لهم فساد اعتقادهم ونقد زائف آرائهم (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟).

أوهن أساس عبادتهم وأوضح بطلانها حيث اعترفوا بعجز الأصنام وتقليد الآباء (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون). أعلن عداوته لمعبوداتهم من قدم فلو كانت تملك شيئاً لنالت منه ثم أظهرهم صفات الإله الحق ليلمسوا الفرق الواضح الجلي.

(قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهديني والذي هو يطعمني ويسقيني وإذا مرضت فهو يشفيني والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) الشعراء:70-82. رماهم بالبعد عن التفكير الصحيح والوقوع في ضلال التقليد فقال : ( لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) الأنبياء:54.

ثم انتقل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى أسلوب آخر في التعامل معهم وذلك بأن رغب في أن يكونوا متجمعين في مكان واحد ليقيم الحجة عليهم فكسر أصنامهم فلما رجعوا من عيدهم ( قالوا من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) ضعفهم بالحجة الدامغة فأطرقوا رؤوسهم مفكرين ثم شهدوا على أنفسهم وآلهتهم بالعجز فلقد وضح الحق وانبلج الصبح.

فلقد عشنا مع خليل الله إبراهيم عليه السلام في دعوته مع أبيه وقومه ورأينا التخطيط السليم المشفوع بالبرهان الساطع إلا أن الأذى لحقه في سبيل الله لكن نزلت عناية الله عز وجل في اللحظة المناسبة فكانت النار التي من صفتها الإحراق برداً وسلاماً عليه.

وعندما نستطلع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه ومع الكافرين عامة ونقف على كل طور من أطوار دعوته نجد منهجاً عظيماً وبحراً ذاخراً ومثالاً واضحاً يعد نبراساً ومشعل هداية لجميع الدعوات. فلقد اجتمع في دعوته صلى الله عليه وسلم جميع دعوات الأنبياء وإن الرحلة الشاقة التي اصطحبت الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام خلال مسيرة دعوته تتجلى لنا في مواقفه العظيمة وخطواته الثابتة.

وهي دروس عملية تعطينا صوراً حية واقعية لمراحل حياته ومعاملته وتصرفاته والتي ترجمت قول الله عز وجل (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) النجم :3-4. وقوله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107، وقوله تعالى : (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران:159.

فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير الصحابة رضوان الله عليهم وتاريخهم هي القدوة الحسنة في مناهج الدعاة والمصدر الكبير لقوتهم الإيمانية وعاطفتهم الدينية يقتبسون منها شعلة الإيمان و يرون فيها دعوة احتضنها الإيمان والصدق فهانت في سبيلها الأنفس على أصحابها والأموال على أربابها والعشيرة على أهلها واستعذب العذاب لأجلها وتتابعت الرحلات لنشرها في مشارق الأرض ومغاربها وسهولها وأغوارها

ومن هنا اشتدت عناية المصلحين والمجددين بهذه السيرة لتكون قدوة حسنة ومادة لإيقاظ همم المسلمين وإلهام قلوبهم بجذوة الإيمان والحماسة الدينية وليس لمجرد الوقوف على الوقائع التاريخية أو سرد القصص والأحداث بل لمشاهدة الحقيقة الإسلامية في مجموعها العملي التطبيقي مجسدة كاملة في مثلها الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم.

«وإن هذه السيرة العطرة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضوان الله عليهم ترسم المنهج السوي والصراط المستقيم والسنن البينة الواضحة لدعاة الصلاح والإصلاح وأساتذة الإرشاد والتعليم وتضمن لهم إن ساروا عليها النجاح والفلاح وتحقيق المرام على أكمل وجه وأحسنه».

تتنوع المواقف في إبراز أخلاق الإسلام المتمثلة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ويبرز خلق (الثبات على المبدأ) في طليعة أخلاق الدعوة ليكون الخلق الأساسي الذي تعتمد عليه الدعوة الناجحة التي يكتب لها التوفيق ويحالفها التأييد من الله سبحانه وتعالى. حذر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل مداراة على حساب الحق أو مساومات في قضايا الدين في مبادئه وأحكامه وتعاليمه وشرائعه فمن ذلك قول الله سبحانه وتعالى:

(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت اذن وما أنا من المهتدين) الأنعام:56. ففي هذه الآية إعلان الرفض التام لأية مساومة تتصل بالعقيدة وأصول الدين فقبول المساومة في هذا المجال ضلال مبين وخروج عن دائرة الهداية.

ويتجلى موقفه الثابت صلى الله عليه وسلم ( مع عمه أبي طالب) وذلك عندما لجأت قريش إلى مفاوضة أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكفه عن دعوته لكن أبا طالب ردهم فاشتد الضغط على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الكرام رضوان الله عليهم بعد إخفاق هذه المفاوضات.

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه. ثم إن قريشاً تآمرت فيما بينهما على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اسلموا فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنوهم عن دينهم ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب وقد قال أبو طالب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب دعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه.

ثم إن نفراً من قريش اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة وكان أكبرهم سناً فقال لهم أجمعوا رأيكم فيه وفي النهاية وبعد أن قالوا ساحر ومجنون وشاعر قال المغيرة قولة حق «والله إن لقوله لحلاوة» ولما أنكروا عليه قال ساحر فأنزل الله في حقه: (سأصليه سقر) المدثر:26.

وقصة سيدنا يوسف عليه السلام وما تعرض له من الفتنة كانت فتنة بين المغريات والإيمان وقد انتصر الإيمان وثبت.وقصة أصحاب الكهف مثال رائد في الثبات على المبدأ بقوة وإرادة وعزم ويقين وحزم لا تزعزعه فتن ولا إغراءات. وفي قصة أصحاب الأخدود تتجلى لنا صورة الثبات على المبدأ

وكيف أن الله عز وجل أعانهم لما ملئوا إيماناً وخشية من الله سبحانه وتعالى وثبتهم على دينهم ولما حفرت الأخاديد وملئت ناراً وكانت من بين المؤمنين امرأة تحمل طفلها ترددت في إلقاء نفسها ليس من اجلها إنما حنواً وعطفاً على وليدها فأنطق الله الوليد فقال لها اصبري يا أماه فإنك على الحق ثم ألقت بنفسها.ونحن عندما نفتح كتاب الله عز وجل نجد عدداً من الآيات تحض المسلم لكي يبذل حتى يثبته الله عز وجل على دينه قال تعالى : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد:7.

Email