ناقوس: الأب الروحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أربعين عاماً تقريباً فوجئت دون الآخرين بفيلم سينمائي أمريكي يحمل اسم «الأب الروحي» ورغم الاقبال الكبير الذي حظي به ذلك الفيلم الذي قام ببطولته عدد من نجوم «هوليوود» المدينة الأمريكية، التي تعتبر عاصمة لفن السينما في العالم رغم هذا كله كان الأمر مفاجأة لي لأنني شعرت وقتها بأن اسم الفيلم قد سرق من واقعنا الذي كانت بلادنا تعيشه في ذلك الوقت، وكان لذلك قصة لا أملّ من روايتها بين الحين والآخر لأنها رغم بساطتها كانت وراء نجاحات كبيرة تحققت في بعض مناطقنا في ذلك الوقت الذي كانت تتشكل فيه ملامح نهضة انتظرها الكل طويلاً. في تلك الأيام البعيدة كنت أزور صديقا لي يقيم في منطقة قريبة من مدينتي عندما طلب مني ان أذهب معه لزيارة «الاب الروحي» لأبناء القرية جميعا بلا استثناء ولأن المصطلح كان غريبا عني في ذلك الوقت فقد وافقت على الذهاب معه كي استطلع ما وراء الامر. وعندما بلغنا معا بيت «الاب الروحي» كما اطلق صديقي على الرجل الذي نزوره فوجئنا او بالاحرى فوجئت وحدي بأن غرفة الضيوف او المجلس قد امتلأت بالكثير من الشباب لان هذا الوقت هو موعدهم الاسبوعي مع ابيهم الروحي كما يطلقون عليه. وهناك التقيت بالكثير من زملاء الدراسة في المدرسة الاحمدية الثانوية التي كانت تضم في فصولها ابناء القرى والضواحي المحيطة بمدينتي. وطوال ساعات استغرقها اللقاء كنت ازداد حباً واحتراماً وتقديراً لهذا الرجل الذي كنت أراه للمرة الاولى، وكنت اشعر بأنه أب حقيقي للجميع فقد كان حديثه كله عبارة عن توجيه وارشاد الى أمور ومجالات وتخصصات علمية حديثة كان حريصا على دعوة ابناء قريته الصغيرة حينذاك واسمها «محلة مرحوم» الى اغتنام الفرصة للانتساب اليها عقب اتمامهم للدراسة الجامعية شارحاً وموضحا لهم ان هذه المجالات والتخصصات هي ما تحتاجه البلاد وان من يبادر اليها مبكراً سوف تكون له الريادة وسوف يحصد من النجاحات ما يفوق غيره من اصحاب التخصصات التقليدية التي تزايدت فيها الاعداد فتضاءلت معها فرص تقديم الجديد. ولم انس قط هذا الرجل الذي عرفت بعد ذلك بسنوات أهمية ما قام به، وكيف استطاع برسالته البسيطة ان يقدم لأهله أكبر خدمة اذ سرعان ما انتشر هؤلاء الطلاب في كل مواقع العمل التي بلغوا فيها الآن مراكز المسئولية، واستطاعوا ان يجعلوا من قريتهم الصغيرة شهرة كبيرة في محيطها من القرى امتدت اثاره الى بقية الاقليم الذي تتبعه القرية وهو محافظة الغربية بدلتا مصر. اما ما يستحق التوقف عنده طويلا فهو تلك المعلومة الصغيرة التي تقول ان هذا الرجل لم يكن من اهل العلم ولا من حملة الشهادات الراقية بل كان انسانا بسيطا لكنه يمتلك وعيا كبيرا استطاع عن طريقه ان يحقق لنفسه اكبر آمالها حين رأى بعد سنوات معدودة افواج الشباب من ابناء قريته وهي تشغل مواقعها المتميزة في مجتمع وطنها الكبير. والحقيقة ان الرجل لم يكن الوحيد في ذلك الوقت بل كان هناك نظراء له توزعوا في مناطق عدة من القطر وصنعوا بدورهم مثلما صنع. ويبدو اننا الآن نفتقد امثال هؤلاء الذين اطلقنا عليهم في ذلك الزمن البعيد اسم الاب الروحي، وكم نحن بحاجة الى ان يوجد بيننا اليوم من يرشد اجيالنا الى الصلاح والفلاح ويغرس فيهم روح الانتماء والبذل والعطاء دون ان يكون في نفسه غرض اللهم الا صالح الناس والاهل والوطن. محمود علام

Email