ما معنى المتربص..؟ ـ بقلم: د. عارف الشيخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعلك ايها القارئ تتعجب كثيرا من هذا العنوان، وانا اكتب زاويتي التربوية، لكن كما يقال في الامثال: «اذا عرف السبب بطل العجب». ـ يا ترى ما الذي دفعني الى ان اكتب هذا المقال تحت هذه الكلمة؟ كنت ذات يوم اقرأ في كتاب: اعلام النساء للعالم الفاضل عمر رضا كحالة وعندما وصلت الى حرف الخاء وقعت عيني على الاسم: خليفة، فقلت في حينه ان الكتاب يتحدث عن أعلام النساء، فكيف ورد الاسم خليفة وهو من أسماء الرجال؟ ـ قلت لعل المؤلف اورده سهوا، ثم تابعت قراءةالمادة المكتوبة عن الاسم خليفة فوجدت ان خليفة اسم امرأة وهي خليفة امرأة الحجاج بن مقلاس محدثة حدثت عن أمها، وروى عنها زوجها. ـ قلت يا سبحان الله، وهل من قلة الاسماء حتى تعتدي معاشر النسوان على معاشر الذكران ويختلسن هذه الاسم منهم؟ ـ كما ان هناك اسماء مثل ايمان ودلال وشهدور ورغد وغيرها من اسماء النساء التي لا تحمل تاء التأنيث. ـ قلت ذلك وأنا اعلم ايضا ان هناك اسماء مشتركة بين الرجال والنساء مثل: نهال ونهاد واكرام وتحسين وجهاد ورضا. ـ دارت الايام ومرت الايام حتى دخل علي رجل في مكتبي وأنا في وزارة التربية، سألته من أنت قال انا مدرس اللغة الانجليزية وذكر لي مدرسته، وكان قد جاء في حاجة، ثم سألته عن اسمه فقال اسمي حمدة. ـ هنا ابتسمت قليلا وكدت أن انفجر ضاحكا وأقول له: أأنثى أنت أم ذكر؟ لكن تمالكت نفسي واكتفيت بالسؤال عن جنسيته فقال بأنه من تونس. قلت في نفسي لا يستغرب من أهل تونس ان يتسمى رجالهم بحمدة، لأنهم فعلا يستخدمون الفاظا فصيحة لكن في غير موضعها، او لها مدلولات عندهم غير المدلولات المتعارف عليها عندنا نحن في المشرق العربي، فيقولون مثلا للنار العافية. ـ لذلك فانك اذا قلت لاحدهم: الله يعطيك العافية كان دعاء عليه لا دعاء له لماذا؟ لأن العافية عندهم تعني النار. ـ على كل فانني سكت عنه، واصبح الاسم عندي مألوفا بحكم الواقع الماثل أمامي وان كان حمدة اسما نسويا في بلادي وفي منطقة الخليج عموما. لكن تعجبي لم ينته، وتلك الاسماء الغريبة لم تتوقف عند خليفة «امرأة» وحمدة «رجل» بل تعدى الى غيرهما حتى قلت: لو كان سهما واحدا لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث ـ نعم لقد ضحكت كثيرا عندما علمت ان اهل تونس يطلقون على الموجه التربوي اسم المتربص. يا ترى ما معنى المتربص؟ ورد في لسان العرب لابن منظور تحت مادة ربص: التربص الانتظار، يقال ربص وتربص به أي انتظر به خيرا أو شرا. وفي الترتيل «هل تربصون بنا الا احدى الحسنيين؟ اي الظفر أو الشهادة والتربص المكث والانتظار، ولي على هذا الامر ربصة أي تلبث. ويقال أقامت المرأة ربصتها في بيت زوجها، وهو الوقت الذي جعل لزوجها اذا عنن عنها، فان اتاها والا فرق بينهما. وفي القرآن: «للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة اشهر». ـ فالمتربص اذن كلمة فصيحة واستخدامها فصيح ايضا اي بالمعنى الذي ورد في قواميس اللغة العربية، وهو الانتظار والمكث والتلبث. فكأنه ينتظر ان يحل به امر، خيرا كان ام شرا. ـ تعجبني من هذه الكلمة انها حلت محل المفتش او الموجه او المشرف. يا ترى هل تبين لاهل التربية ان كلمة التفتيش كانت تحمل معنى التجسس فأبدلوها بكلمة التوجيه، ثم وجدوا انها لم تحل المشكلة فأبدلوها بكلمة المتربص؟ اعتقد ان كلمة التربص او المتربص مازالت تحمل الكثير من تلك المعاني التي تشاءم منها رجال التربية. فالتربص تعني الترقب والانتظار والمكث وحلول مفاجأة قد لا تكون خيرا دائما. ـ وفي الوقت نفسه تعني ان احدا يعمل شيئا واخر يتتبع حركاته وانفاسه، وكأنه يعد سقطاته وزلاته، وينتظر أن تصدر منه هفوة لكي يشمت به، وهذه هي المعاني التي كانت تحمل كلمة التفتيش ايضا. ـ اذن كلمة التوجيه او الاشراف هي الافضل والانسب، لانها تحمل معني الارشاد والهداية والتعليم. لكن ليتها توظف بالشكل الذي اريد له لا بالشكل الذي آلت اليه الآن مهمة الموجه التربوي. ـ من هنا اقول ان الكلمات في ظاهرها لا تهم كثيرا، بل المضمون اهم بكثير، لأن المضمون هو الذي يترجم الى افعال. ـ انظر معي ثانية الى كلمة التفتيش التي تغير شكلها اكثر من مرة، لكن المضمون لم يتغير بدليل ان التربويين في الوطن العربي مازالوا يبحثون عن بديل لها، واهتدوا اخيرا الى كلمة المشرف التربوي. ـ انني في الواقع غير متفائل بالمسمى الجديد اذ انه لن يغير شيئا في الميدان ما لم تتغير ممارساتنا فيما بيننا، في مجالات الحياة اليومية المختلفة. ـ اننا مازلنا ننظر الى كلمة المدير او الرئيس او المشرف او المراقب او المتربص انها تعني حصر سلبيات من يعمل تحت يده لا توجيهه وارشاده والاخذ بيده نحو الصحيح. ـ اننا مازلنا متعطشين للانتقام والاخذ بالثأر، ونفي الاخرين من الوجود والانفراد بالسلطة او التحكم في الاخرين، ولم نؤمن بعد بأن الحياة شراكة، او الحياة تعاون وتشاور. ـ مازلنا نريد الخير لانفسنا ولأولادنا فقط، اما الاخرون فهم دخلاء علينا يجب محاربتهم بالقول والفعل، لذلك فاننا اذا اتيحت لنا فرصة بدأنا بالهدم لا بالبناء وبالتجريح والاحباط لا بالتشجيع والثناء الحسن. ـ لو لاحظنا في الآيتين الاخيرتين من سورة الزلزلة لوجدنا ان الله سبحانه وتعالى قدم الثواب على العقاب، حيث قال «ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره». ـ ما ينطبق على المفتش والموجه والمتربص ينطبق على شرطي المرور، وخطيب المسجد، والمدرس المكلف بتقدير درجات اجابة الطالب في الامتحان وغيرهم، اذ يفترض ان يقدموا حسن النية على سوء الظن بالناس. ـ فلا يجوز لشرطي المرور مثلا ان يسجل المخالفة لمجرد انه رأى شخصا لا يربط حزام الامان، لانه ربما كان رابطا لكنه رفع الحزام لأنه اقترب من الوصول الى مكتبه أو بيته، اوانه اراد ان يخرج هاتفه من جيبه فضايقه لذلك رفعه مؤقتا. ـ والمدرس لا ينبغي ان يضع علامة الرسوب لطالبه لمجرد انه اخفق في الوصول الى الدرجة المطلوبة، مع العلم بأن الفارق مقدور عليه لو نظر اليه نظرة المنصف، وهكذا كل من كلف بمهمة يجب عليه الا يكون حنبلي التفكير بمعنى انه يمسك بنصية النظام او القانون. ـ ان القانون او النظام او القرار لا يحيط بكل شيء، ولكنه يضع الاطار العام ثم يترك لمستخدميه ان يتعاملوا معه بوعي، لذلك قيل: العدالة ليست في نص القانون، بل في ضمير القاضي. ـ ما اقوله ليس ابتداعا من عندي، بل هو ما دعا اليه سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الا ترى انه عندما جاءه فلان الصحابي وقال يا رسول الله طهرني لقد ارتكبت معصية الزنا، قال له لعلك قبلت أو غمزت. ـ كان هدفه صلى الله عليه وسلم ان يوجد له عذرا، قال ذلك رغم انه يعلم انه زان وحد الزاني الجلد او الرجم، والرجل اقر على نفسه بذلك، لكن مع ذلك يريد ان يعلم اصحابه بأن الحياة مبنية على حسن الظن بالناس اولا، وعدم نشر الفاحشة او الريبة، واعطاء الناس فرصة للدفاع عن النفس او التروي فيما يقبل التروي، اذ ليس هدف الدين ابادة الناس والقضاء على حريتهم قدر ما هو يهدف الى بث روح الامل والحياة فيهم، ثم توجيههم الى ما يحفظ لهم السلامة والامان. ـ اقول وهذا هو ما اخذت به الغرب اليوم حيث انك تدخل بيوتهم ومتاجرهم فيؤمنوك على كل شيء، ويصدقون معك اذا سألت عن الاسعار، ويتركونك بكامل حريتك، بل يتركونك تركب القطار او الباص من غير ان يقف لك شخص في الباب ويقول لك اين التذكرة؟ ـ يفعلون ذلك ولكن اذا تبين لهم انك خالفت النظام لم يرحموك عندئذ، والسبب أنت.. أليس كذلك.

Email