الفتح العظيم وأثره الأعظم

ت + ت - الحجم الطبيعي

رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن.. هذه المعاني الجليلة هي الثمرات المرجوة بأن يخرج بها المسلم من مدرسة الشهر الفضيل، بعد أن تهيأ لاستقباله كما تتهيأ النفس لاستقبال أعز غائب يتنظر.

ومنذ دخول هذه المدرسة الكريمة على الصائم أن يروض نفسه للصيام والقيام وصالح الأعمال؛ فيكتب الأجر بهذه النية الصالحة، فكذلك فيه تهيئة للنفس لتطهيرها من رذائل المعاصي، بالعزم على البعد عنها وسلوك الاستقامة فيه حتى لا يكون فيه المرء من الغافلين، وهذه النية الصالحة تجعل من يتلبس بها كأنه مؤدياً لعبادة الصيام إن أدركه الموت أو العذر، فإن نية المؤمن خير من عمله.

فتح مكة هو الفتح الأعظم في تاريخ الإسلام؛ فإن مكة التي هي موئل الحنفية، ونبع الإسلام، وحرم الله الآمن، ومحل بيته العتيق، ظلت مدنَّسةً بالأصنام والأوثان قرونا.

وقد أمر الله نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام أن يطهِّر بيته للطائفين والقائمين والركع السجود كما قال سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وهذا أمر شرعي دائم، نفَّذه إبراهيم عليه السلام، فجعل مكة دار إسلام، ونادى في الناس:

أن يحجوه لطهارته وخلوصه من الشرك والوثنية، لكن تعاقبُ الزمن وتراخي النبوة أنسى الناس عهد إبراهيم ومِلَّته الحنيفية، فبدَّلوا دينه وغيروا شريعته.

ولا بد لهذا الشرك أن ينمحي؛ لأن الأمر الإلهي لا يزال يتردد صداه في طي الرسالة الخاتمة التي كانت أثرا من آثار دعوة إبراهيم عليه السلام، فهو الذي نادى ربه قائلا {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فلما جاء الرسول منهم وفيهم ومن أوسطهم حسبا ونسبا، جاء برسالة الإسلام بتوحيد الملك العلام، ومكة أول بلاد الله تعالى تدعى إليه، كما قال الله تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} فأنذر صلى الله عليه وسلم وبشر وحذر، ولكن ضلال الآباء.

وعادات الجهلاء ظلت مخيِّمة عليهم فلم ينفعهم نذير ولا بشير، فعادَوُا الدعوة والداعي، حتى اضطروه إلى الهجرة من بلاده وأحب البلاد إلى الله وإليه، إلا أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان خروجا مقرونا ببشارة العود المصحوب بالتطهير لكل أرجاس الجاهلية ووثنيتها كما قال سبحانه {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد} فكان هذا الوعد مبشرا بعودة قريبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسقط رأسه وموئل الحنيفية الأولى.

لقد كان الفتح المبين في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، بعد أن اشتد الإسلام، وقوي عودُه، وكثر عددُه، فكان ينتظر السبب الذي يفتح الباب، فكان سببه صلح الحديبية الذي كان في ظاهره جوراً فظيعاً على رسول الله وصحبه الكرام الذين جاؤوا مكة معتمرين ولم يأتوا فاتحين.

وكان على قريش أن ترحب بهم كما ترحب بسائر العرب الذين يأتون متنسِّكين، وليس من حقهم أن يصدوا أحدا قاصدا بيت الله الحرام، لكنهم أبوا مكابرين وقالوا:

«لن يدخلها محمد عنوةً» فكان فألاً سيئاً لهم بدخوله عنوة وهم صاغرون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها بعشرة آلاف مقاتل مدججين بالسلاح، مستعدين لقتالِ مَن ناوأهم، كما أذن لهم بذلك ربهم سبحانه وتعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».

وقد كان مبدأ هذا الفتح ذلكم الصلح الجائر الذي كان من بنوده: «أن من أحب أن يدخل في حلف النبي فليدخل ومن أحب أن يدخل في حلف قريش فليدخل» وهو الشرط الوحيد الذي كان فيه إنصاف، وكانت خزاعة حليفة بني عبد المطلب في الجاهلية والإسلام، فدخلت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بنو بكر فدخلوا في حلف قريش.

وكان بينهم وبين خزاعة حروب، وكانت خزاعة قد نالت منهم، فلما وضعت الحرب أوزارها، أرادت بنو بكر أن تأخذ بثأرها من خزاعة، فأمدتها قريش بالرجال والسلاح، فغاروا على خزاعة ليلا، وقتلوا منهم نحو عشرين، فكان هذا نكثا واضحا للعهد، جعل النبي صلى الله عليه وسلم في حل من المعاهدة، فلما جاءته خزاعة تشكو قريشا وبني بكر، فما كان بوسع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينصر حلفاءه بمقتضى المعاهدة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وكتم مخرجه، وسأل الله أن يُعمِّي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلادهم.

فكان فتح مكة في العشرين من رمضان فتح نبي الرحمة، حيث أمَّن أهل الحرم خصوصا وعموما، فمن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم قال للجميع: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقال مستعطفين: خيرا أخ كريم ابن أخ كريم! وعندئذ قال لهم: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء.

فعادت بذلك مكة دار إسلام، ومصدر فتح وإلهام، وعادت حراما كما كانت حرمتها بالأمس.

 

* مدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي

 

Email