القرآن أنيس المسلم في رمضان

ت + ت - الحجم الطبيعي

رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن.. هذه المعاني الجليلة هي الثمرات المرجوة بأن يخرج بها المسلم من مدرسة الشهر الفضيل، بعد أن تهيأ لاستقباله كما تتهيأ النفس لاستقبال أعز غائب يتنظر.

ومنذ دخول هذه المدرسة الكريمة على الصائم أن يروض نفسه للصيام والقيام وصالح الأعمال؛ فيكتب الأجر بهذه النية الصالحة، فكذلك فيه تهيئة للنفس لتطهيرها من رذائل المعاصي، بالعزم على البعد عنها وسلوك الاستقامة فيه حتى لا يكون فيه المرء من الغافلين، وهذه النية الصالحة تجعل من يتلبس بها كأنه مؤد لعبادة الصيام إن أدركه الموت أو العذر، فإن نية المؤمن خير من عمله.

شهر رمضان شهرُ تنزلِ القرآن، وشهر فيوضات الملك المنان، على هذا الإنسان بالهدى والفرقان، كما قال الله جل ذكره: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي إن هذا الشهر بدأ فيه الفيض الإلهي على خلقه، بعد أن اصطفى خير رسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.

ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الجهل إلى العلم، كان توقيت ذلك كله في هذا الشهر الكريم، فاصطفاه الله من بين الشهور، كما اصطفى الرسول الذي يحمل هذا الكتاب العظيم، فكان ذلكم المصطفى هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي اصطفاه واجتباه من بين البشر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

رجل عظيم

لقد اصطفى الله عز وجل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يحمل هذا الكتاب العظيم المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلا رسول عظيم، وكل رسل الله عظماء، ولكنَّ الله فضَّل بعض رسله على بعض كما قال سبحانه:

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} الذي رفعه الله درجات عاليات هو سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كما قال هو عن نفسه، وهو لا ينطق عن الهوى: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع».

فلما أراد الله إظهاره أوحى إليه بهذا الكتاب العزيز، وكان ذلك في ليلة القدر من هذا الشهر الكريم كما قال جل شأنه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وفيها أنزله الله تعالى إنزالاً جُمَلِياً إلى سماء الدنيا ليتنزل بعد ذلك حسب الوقائع والأحداث مدة النبوة والرسالة 23 عاماً، وكان آخر ما أنزل عليه على الإطلاق قوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

فاختار سبحانه شهر رمضان لبدء تنزله على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وآذنه بالنبوة فيه لأنه سيد الشهور، وقد ميز الله به هذه الأمة كما قال محققو أهل العلم ليتناسب عِظم المنزَّل، مع عِظم المنزل عليه، والمنزل فيه.

وقد نبهنا الله تعالى بذلك لنعلم عظيم فضل الله علينا حيث اختار لنا أفضل كتبه وأفضل رسله وأشرف أزمنته، فتشكر الله على مزيد فضله سبحانه عليها، وهو ما أشار إليه الحق سبحانه في آيات الصيام {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبن ما يتعين في هذه المناسبة من الذكر فأرشد إلى العناية بالقرآن الكريم، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن».

يعني أن جبريل عليه السلام الروح الأمين وسفير الوحي، يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة في هذا الشهر لمهمة زائدة عن الوحي، وهي مدارسة القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم، تجديداً لذكرى تنزله، وتثبيتاً له في صدره صلى الله عليه وسلم وفؤاده، وتشريعاً للأمة كيف تتعامل مع القرآن في شهر تنزله، بأن توليه كل عنايتها ورعايتها.

فتقرأه فرادى ومثنى وجماعات، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجعل الليل لمدارسته مع جبريل عليه السلام؛ لأنه الوقت الذي تنزَّل فيه، ولأنه الوقت الذي يخلو فيه المرء عن الشواغل، والوقت الذي يتجلى فيه الله تعالى لعباده ويقول: «هل من سائل يُعطى؟ هل من داع يُستجاب له؟ هل من مستغفر يُغفر له؟ حتى ينفجر الصبح».

والقرآن يجمع ذلك كله؛ فإنه ذكر ودعاء ومناجاة لله تعالى بكلامه، وقد جاء في الحديث القدسي عن الله جل وعز: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» والقرآن أفضل الذكر وأفضل الدعاء.

وإنما شرعت صلاة التراويح بالقرآن كله؛ ليكون كل مسلم على صلة بربه سبحانه وتعالى بقراءة وسماع كتابه والتعبد به.

 

* مدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي

 

Email