رواية «الجائحة» – الحلقة السابعة عشرة (في مدينة الحب - الأحد 7 مارس 2020)

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصيبت سارة بهستيريا، حين كشف لها عمر، صباح يوم الأربعاء 26 فبراير 2020، السرّ الذي خبأه طيلة الفترة الماضية، خلال انشغالها بعلاج صديقتها مُنى، فقال لها إنه سيذهب اليوم إلى باريس..!

تماسكت وراحت تقبّل يديه وهي ترجوه أن يؤجل رحلته فرفض، قال بأن افتتاح فرع لمركز الدراسات هناك، المخطط منذ شهور، سيجعل المركز عالمياً. فشلت في استخدام كل وسائل الإقناع المتاحة، قالت له إن «إريك كاومز»، أستاذ الأمراض المعدية والمدارية في مستشفى بِتي -سالبيترير في باريس، قال «إن على فرنسا أن تستعد لتفشي فيروس «كورونا» بشكل مماثل لما حدث في إيطاليا مؤخراً».

فركب عمر رأسه رافضاً، فقالت: «عدد المصابين في الصين قد بلغ 77 ألفاً وتم تأكيد إصابة 1200 حالة أمس في 26 دولة توفي منهم أكثر من 2600 شخصٍ، وبعض الدول قد بدأت فعلاً إجراءات منع السفر، وعليك أن تستمع إليّ لمرة واحدة..!» فوضع قدميه في الحائط، قالت:

«إن أهم حدث في العالم، وهو إكسبو دبي 2020 قد يتم تأجيله، وإن كل الفعاليات الدولية، الصغيرة والكبيرة، السياسية والاقتصادية والرياضية وكافة المؤتمرات والندوات قد تم أو سيتم تأجيلها قسراً، فكيف لا يؤجل افتتاح فرع لمركز هناك؟» فرفع يده أن لا جدال، وأنه ذاهب إلى المطار بعد 4 ساعات، فاضطرت إلى تخويفه بالإصرار على مرافقته، لكنه فرح بذلك، وقال: «إذاً، استعدي، واحزمي حقائبك، فليس لدينا سوى ساعتين، للوصول إلى المطار..!».

كان الرعب يدقّ مسماراً فولاذياً مسموماً في رئتي العالم، من جرّاء تفشي فيروس «كورونا»، فظهرت النظريات العقيمة لدى بعض رجال السياسة والاقتصاد وقادة في العالم لترك هذا الفيروس ينتشر ليكتسب الناس المناعة الطبيعية بدون إغلاق أو منع سفر أو تعطل الاقتصاد.

وكان عمر ممن تبنّوا هذه النظرية، فحضرت معه الافتتاح على مضض، كانت مضطربة، وكل ابتساماتها مُزيفة، وكل مجاملاتها للحاضرين بلا لون ولا رائحة، كان البعض يشعر مثلها، وبقيت تدفعه إلى اختصار الرحلة المقررة لمدة أسبوعين لتصبح يومين، ولكن بلا طائل.

لم تفهم سارة الرجال الذين لا يلتزمون التدين والإيمان بالقدر، لكنهم يخوضون الحياة متحدّين الكوارث والأزمات التي قد تقتلهم، ففي الهزّات الأرضية التي تضرب مدناً كبيرة، تجدهم يقتحمون المواقع والاهتزازات مازالت ترجّ الأرض رجّاً، وهم يعلمون أنهم قد يتعرضون للموت، في أية لحظة.

وكذلك في المعارك والحرائق والملمات الكبرى، فلم تستطع أن تتبين شعور عمر، وهو ليس من الذين يسلّمون أمرهم للقدر، يتحرك بين الناس والأصدقاء، يُحادث هذا ويُقبّل ذاك على خديه، ويشدّ على يد ذلك، مع احتمال إصابتهم جميعاً بهذا الفيروس الخبيث. كانت تلاحقه كل دقيقة لغسل يديه بالماء والصابون، لم يكن يرفض، كان يحبها بجنون، يدللها كطفلتـه ويعاندها كطفلها المدلل، يستمع إلى ملاحظاتها وتوجيهاتها كأنها أمه التي حُرم منها وهو مازال رضيعاً.

خلال إقامتهما في مدينة الحب التي تكوّمت من البرد ككرة يتقاذف المطر ليلها ونهارها، فيجبرهما الركض كعاشقين متلاصقين، من باب الفندق إلى السيارة، ومن باب السيارة، يركضان مرة أخرى، بمظلة واحدة، على الممر المرصوف حصى، حتى موقع المكتب الجديد، قرب تل «بلاس دي لا كونترسكارب»، في شارع موفتار، ثم يعودان مساء، بنفس الطريقة، كانت سارة، يومياً.

وحالما تصل إلى الفندق، تطمئن على صديقتها مُنى، تتصل معها صباحاً ومساءً عبر تطبيق «سكايب»، تسألها عن تقدم العلاج، وعن تطورات القضية التي حركها سوزيان، بعد عودته في الثاني عشر من فبراير، ضدها وضد شقيقها شربل، حين تهجم سوزيان على المنزل، وراح يجرجر الفتاتين ليأخذهما عنوة، ويرفض استجداء الجدة بشرى، أن يرحم الأم المريضة المنكوبة، فمد يده ليضرب بشرى.

فاضطر شربل إلى ضربه وطرده من البيت، فقالت مُنى إن شكواه قد رُفضت، بل وتم توقيعه على تعهد بعدم الاقتراب، لكنه ما زال يتصل بالفتاتين كل يوم، يحرضهما عليها وعلى جدتهما، ويبكي لهما حاله، وأوضاعه المزرية، وأنه في حال وافقت أمكم على دفع 50 ألف دولار، فلن تراني للأبد، فسألت سارة عن قرار مُنى، فقالت:

«لست أدري»، ففكرت سارة للحظة، ثم قالت إنها تخشى أن يختطف سوزيان نتالي وتاليا، مرة أخرى، من المدرسة، فقالت بُشرى، التي كانت تجلس خلف مُنى، خلال المكالمة عبر «سكايب»، إن الإمارات، قررت منذ الثالث من مارس، تعطيل المدارس، كإجازة الربيع، بسبب «كورونا»، وحين تعود الدراسة، ستعود الفتاتان إلى «التعلم عن بُعد» فقط، ولن يخرجا من المنزل وستكونان تحت عينها ورعايتها.

كانت رحلة علاج مُنى بالعلاج الإشعاعي الموجّه من السرطان الذي بلغ في الرئة والعقد اللمفاوية المجاورة، المرحلة الثانية؛ قد بدأت يوم وصول أمها بشرى وشقيقها شربل في العاشر من فبراير، وخلال أول أسبوعين، قال الأطباء إن صحتها تتحسن تدريجياً وإن هناك احتمالاً كبيراً في السيطرة على المرض الخبيث أيضاً، فكانت سارة تزورها مرتين أسبوعياً في البيت ومرة واحدة في المستشفى، قبل سفرها إلى باريس، وحين عادا إلى دبي، في السابع من مارس 2020، وقبل إغلاق المطارات بنحو 10 أيام، وتم فحصهما مثل كل المسافرين، فحصاً دقيقاً، لم تظهر على عمر أو سارة أية أعراض.

فاستأذنته بزيارة مُنى في بيتها، وارتدت الكمامات والقفازات، واطمأنت عليها بسرعة، وعلى والدتها والطفلتين، دون تقبيل أو عناق، فقالت بشرى إن سوزيان قد أودع في السجن، بسبب شيك بنكي بقيمة مئة ألف دولار، ونظرت مُنى لأمها، وهي تُخفي الألم الشديد في صدرها، وكل أوجاعها عن سارة، وأضافت إنها لا تظنّ أن سوزيان سيخرج قريباً، فهزّت رأسها سارة عدة مرات وذكرت لها أن عمر في السيارة ينتظرها، ولكنها ستذهب معها غداً إلى المستشفى للعلاج.

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

Email