رواية "الجائحة" - الحلقة الثانية («اختطاف» - الثلاثاء 14 يناير 2020)

ت + ت - الحجم الطبيعي

فجر الثلاثاء، 14 يناير، وقفت سارة تائهة، قررت أن تأخذ حماماً بارداً، اعتادت عليه، وعلى احتمال برودة ذلك الرذاذ الشديد، منذ عملت في الصحافة فور تخرجها من الجامعة قبل 10 سنوات، وتمرست في التحقيقات والمهمات الاستقصائية، وكانت تحتاج دوماً إلى دفعة من النشاط والحيوية التي لا يوفرها شيء مثل الحمام البارد، وبدأت تحاسب نفسها أنها لم تعد إلى منزل مُنى لأخذ الطفلتين معها أو البقاء معهما هناك، تناولت أدويتها، ورأت مفتاح سيارتها الصغيرة الفيروزية، ترددت في القيادة وهي مشوشة، فقررت أن تطلب سيارة «أوبر» تنقلها إلى بيت مُنى، وصلت الخامسة صباحا تقريبا، صعدت إلى الطابق الثامن عشر وصعدت معها كل الكوابيس، طابقاً طابقاً، قرعت الجرس، لم تتلق جواباً، إلا من قلبها الذي بدأ يخفق بقوة، قرعت الجرس مرات متتالية غاضبة، فتحت الخادمة الباب وهي تفرك عينيها، سألت سارة: أين نتالي وتاليا؟ قالت الخادمة: في غرفتهما. فسألت عن سوزيان، فقالت الخادمة إنها لا تدري !

دخلت سارة مسرعة نحو غرفة الطفلتين، وكشفت الغطاء عن سرير تاليا فوجدت تحته وسادة..! صُدمت، كشف غطاء نتالي فوجدت الشيء نفسه، صرخت وركضت نحو غرفة سوزيان وأشعلت الضوء فوجدت الملابس متناثرة والخزانات مفرغة والفوضى تعمّ الغرفة، فركضت مرة أخرى وهي تصرخ وتبحث عن هاتفها الجوال فلم تجده، يبدو أنها نسيته في البيت أو سيارة الأجرة، بحثت عن الخط الأرضي فوجدت أن السلك منزوع من مكانه والجهاز غير موجود، فطلبت من الخادمة هاتفها فقالت وهي ترتجف بأنه لا يوجد به رصيد كاف، فاستعملت خدمة الـ إس أو إس، وطلبت النجدة فتم تحويلها إلى شرطة دبي مباشرة، وقدمت شكوى بسوزيان بخطف الطفلتين، فطلبوا منها الانتظار دقيقتين في مكانها لحين وصول سيارة دورية الشرطة، وفعلاً، وقبل أن تصحو من سكرات الموقف كان المحقق غانم قد وصل وأخذ منها شرحاً وافياً، وذكر لها أنه لا يحق لها تقديم شكوى، ولكن وبسبب أنه يصدقها وأن الأم في المستشفى فسيقوم بالاتصال مع القيادة لعمل استثناء، وحصل على موافقة بتعميم اسم وأوصاف سوزيان على المعابر الحدودية، وقال بأنه اتصل مع قسم حقوق الإنسان في شرطة دبي وطلب إرسال متخصصة نفسية للحضور الفوري إلى العنوان.

تحوّلت عينا سارة إلى بركتين صغيرتين من الدموع الحارقة، وأصبحت حنجرتها كمفصل باب صدىء يصدر صوتاً متحشرجاً، قدمت الخادمة، بيدين مرتجفتين، قهوة ساخنة، تناولها الضابط غانم وقدمها لسارة وهو يحاول طمأنتها، فتناثرت دموعها وزادت حشرجة صوتها وهي تحاول أن تشرح له عن المصيبة الكبرى الثانية، وكيف ستخبر أم الطفلتين بما جرى، مع حالتها الصحية المتردية، تفهم غانم الأزمة، وصلت الدكتورة النقيب شيخة من قسم حقوق الإنسان في شرطة دبي، كانت ترتدي الوشاح (الشيلة) والعباءة السوداء الإماراتية، سلمت على سارة وغانم وسألت بمودة عمّا جرى، فقص غانم الحادثة وشرح لها الإجراءات، اقتربت من سارة وبدأت تواسيها، قالت لها إن عليها أن لا تقلق أبداً، وأن تترك لها نقل الخبر إلى الأم، فهي متخصصة بذلك، كانت كلماتها عذبة ساحرة، اخترقت قلب سارة، وراحت تهدأ تدريجياً، أشارت الدكتورة شيخة للضابط غانم أن يذهب جانبا، طلبت منه التأكد إن كان سوزيان قد غادر البلاد فعلا أم أنه ما زال في الدولة.

نزل غانم مسرعاً إلى سيارة الدورية، مكث دقائق وهو يجري الاتصالات المكثفة، خلال ذلك راحت شيخة تشغل سارة في موضوعات أخرى، سألتها عن عملها، فقالت لها إنها مديرة مكتب وكالة أنباء «ف.ج برس» في الشرق الأوسط، سألتها عن علاقتها بمُنى، فراحت تروي كيف تعرفت عليها في العام 2011، أثناء تنظيم مؤتمر صحفي في فندق أتلانتس، قالت: «مُنى إنسانة رقيقة معذبة، مقاتلة من طراز ناعم، تمكنت من هزيمة هذا الوحش سوزيان الذي هجرها وتركها تصارع الدنيا وحدها، إلتقيتها في عدة مناسبات لاحقة، رأيت فيها نموذجاً للمرأة المثابرة المجتهدة، وأجريت معها لقاء صحفياً مصوراً، وتوثقت علاقتنا، دعتني إلى بيت والدتها في باريس العام الماضي، قضيت إجازتي معها ومع نتالي وتاليا وأمها لمدة شهر تقريبا، كانت كريمة ولطيفة بصورة لا يمكن توقعها».

دخلت أسارير الضابط غانم المستبشرة تسبقه، وقفت شيخة وسارة فوراً، قال: «تم التأكيد أن المدعو سوزيان علال زيانين، لم يغادر أرض الدولة، وأنه ما زال هنا مع الطفلتين»، قفزت سارة وهي ترفع يديها الإثنتين في الهواء، ثم احتضنت شيخة بقوة وكأنها تعصرها، فظهرت ابتسامة شيخة العريضة وهي تهزّ رأسها، شكرت سارة الضابط غانم وهي تسأل: «هل يمكننا تحديد مكان الطفلتين؟». فقال غانم: «لا تقلقي، دعي لنا هذا الأمر، الأمور طيبة».

في تلك اللحظة، أشرقت الشمس، من بين مباني منطقة البرشاء الشاهقة في دبي مخترقة نافذة بيت مُنى فانعكست على ملامح شيخة العربية، عينين واسعتين سوداويين، أنف صغير رقيق، فنظرت إليها سارة معجبة بجمالها الأخاذ، قالت: «ما شاء الله، لم ألحظ جمالك قبل قليل، سبحان من صورك، بعد انتهاء هذه الأزمة، سأجري معك لقاء حصريا، ما رأيك؟».

ابتسمت شيخة بخجل وربتت على كتف سارة وقالت إن عليهم الآن الذهاب إلى المستشفى، لمعرفة حالة الأم، والتحدث معها.

همس غانم لشيخة إن عليه مرافقتهم لتسجيل شكوى رسمية من الأم مباشرة، حيث تقتضي الإجراءات ذلك، ولن تقبل الشكوى من سارة، فسوزيان هو والد الطفلتين، فوافقت شيخة وقالت إنه لابد من التأكد من حالة مُنى الصحية أولاً، وحسب ما يقوله الطبيب، فانطلقت شيخة في سيارتها الخاصة ترافقها سارة، وأمامها دورية الشرطة تفتح لهما الطريق، وصلتا المستشفى، وتوجهت شيخة نحو الاستقبال تسأل عن غرفة مُنى، وعن الطبيب المناوب المختص، حاولت سارة أن توجه شيخة نحو الغرفة التي كانت فيها مُنى مساء، فابتسمت شيخة وقالت إن عليهم أخذ الإذن من الطبيب أولاً، فهزّت سارة رأسها موافقة وجلست على مقعد من الألمنيوم قرب الاستقبال، وبعد لحظات جاء الطبيب المناوب، وتحدثت معه شيخة لدقيقة، وعادت تقف قرب سارة وتبلغها بأن مُنى في العناية المركزة، على أجهزة التنفس الاصطناعي، وغير مسموح زيارتها، وأن بإمكانهم العودة الساعة 12 ظهراً.

وضعت سارة يدها على فمها، ثم حكّت عينيها المريضتين المتعبتين، وقفت وهي حائرة، لا تعلم ماذا تفعل، قالت لها شيخة إن عليها الآن العودة لبيتها، وأخذ قسط من الراحة، وأنه يمكنها أن توصلها، فهزّت رأسها وهي تقول: «أتعبتك كثيراً، يمكنني الذهاب بسيارة أجرة، فهي متوفرة هنا».

رواية "الجائحة" - الحلقة الأولى (الحمى - الاثنين 13 يناير 2020)

Email