رواية «الجائحة» – الحلقة الخامسة عشرة («جدال عقيم»- السبت 15 يناير 2050)

ت + ت - الحجم الطبيعي

ارتعبت الكرة الأرضية، كان فيروس «هاكفيت» قد تضاعف مئة مرة خلال 24 ساعة، وبلغت أعداده في دول العالم أجمع، أكثر من سبعين ألف فيروس، لم يكن كغيره من الفيروسات التي تسقط على الأسطح، بل يختبئ في ذرات ثاني أكسيد الكربون، ويبقى مُعلقاً في الهواء.

كان العزل مشدداً، بصورة لم تخطر على بال العلماء في الماضي، فاشتركت دول العالم كلها في حكومة طوارئ دولية، تفرض أحكاماً تصل إلى الإعدام لأي شخص يرفض العزل الكامل، وكذلك تمَّ عزل جميع الحيوانات، في نظام عزل حيوي تم اكتشافه في عام 2036، يُلقي بغمامة أكسجين على أي مكان تجتمع فيه الحيوانات غير الأليفة وغير المنزلية، بعد أن اضطرب نظام تبريد الأرض، بين عامي 2030- 2034، بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، وارتفع تركيز ثاني أكسيد الكربون، وأدى ذلك إلى التلف البيئي العملاق في عام 2034، فنفق ثلث حيوانات الأرض، وظهرت المجاعة المشهورة التي راح ضحيتها مليون إنسان، وشهدت تلك الأعوام تزايداً كبيراً في الإشعاعات الكونية.

كان الاحتباس الحراري، قد تسبب في ذوبان معظم الجبال الجليدية والكتل الثلجية، وزادت الأعاصير والفيضانات بشكل غير مسبوق، وارتفعت ملوحة مياه البحر، وانخفضت إنتاجية بعض الموائل الطبيعية الحيوية، كالشعاب المرجانية، وتسبب أيضاً في خسارة فادحة في الثروة السمكية العالمية، وانخفضت الإنتاجية الزراعية، وزادت نسبة الأراضي القاحلة، وانتشرت الأمراض والأوبئة بصورة فظيعة، فكان القرار العالمي المقدم من الحكومة الفرنسية، وبتمويل صندوق عالمي أنشأته الإمارات والسعودية، وحظي بدعم ومتابعة رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك، سارة بلير، لزراعة مليون شجرة يومياً حول العالم، لبلوغ مليار شجرة خلال 3 أعوام، ومنع قطع وتجارة الأخشاب كلياً، وتحت طائلة المسؤولية الجنائية الدولية، وإنشاء صندوق آخر لعلماء التكنولوجيا والمناخ، بخمسين تريليون دولار، لاستخدام الطاقة الشمسية والهيدروليكية الطبيعية، وإنتاج تكنولوجيا قادرة على تجميع ثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الطاقة والمصانع، فقام العلماء باكتشاف غمامة الأكسجين التي تضرب سوراً وغطاء، كمزرعة غيمية يمكنها حماية الإنسان والحيوان من أي فيروسات جديدة، لم يتعامل معها مسبقاً، ويمكنها أيضاً تفعيل التمثيل الضوئي بامتصاص ثاني أكسيد الكربون، وتحويله إلى أكسجين.

كانت سارة قد تسمّرت أمام إيفا، وهي تتابع انتشار جائحة هاكفيت، ومع كل فيروس يولد، كان قلبها يخفق، وصخب شجيراتها المنزلية يتصاعد، طلبت من إيفا إغلاق نظام الاستشعار، لتحصل على قليل من الهدوء، لكنها لم تحصل على شيء، كان الاضطراب يُمعن في جَلْدها بسوطه الناري الحارق، فتنفجر مشاعرها وأفكارها، وتتأزم بطريقة عشوائية، شعرت بأن عمر يقترب منها ويقول: «يكفي يا سارة، لن يحتمل قلبك الضعيف، وقد يصيبك هذا بالجنون!»، فبقيت عيناها معلقتين على إيفا وشاشاتها، وعينا إيفا تخترقان ذاكرتها وذكرياتها، فوضعت سارة أصابعها على عينيها، وراحت تفركهما، وهي تقول: «معقول يا عمر؟ نحن في عام 2050، وليس لدينا تقنية واحدة تقضي على هذا الفيروس؟ معقول؟!».

لم تكمل سارة جملتها، ظهر جهاز الإنذار على شاشة إيفا، معلناً تسجيل أول حالة إصابة عالمية، وقفت سارة بسرعة، واستعادت بلحظة شخصيتها الحقيقية واتزانها، حددت مكان الإصابة، إنها سفينة صغيرة تعبر من بحر إيجه إلى البحر الأسود، عبر مضيق مرمرة، شمال غربيّ تركيا، كان العالم كله يراقب هذا الأحمق، الذي لم يسمع نداءات وأوامر العزل، وخلال أقل من ثلاثين ثانية، بدا أن حكومة الطوارئ الدولية، قد أصدرت أمراً بالتقاطه من سفينته، ووضعه في مستشفى طائر، عبارة عن مركبة شبه فضائية، تضم عدداً من العلماء والأطباء المتخصصين في علوم الفيروسات.

حاولت سارة أن تعرف اسمه، فلم تستطع، فكتبت فوراً خبراً يقول: «هاكفيت يسجل أول إصابة بشرية في مرمرة، والحجر الفوري يضع المُصاب في مستشفى مركبة كاتيوس المتجولة»، فمرت دقيقة واحدة، وكأنّ الأرض كلّها أصيبت بالصمم والعمى، وفقدت القدرة على الكلام، دقيقة واحدة، لو أُلقيتْ خلالها قطعة نقد في روسيا، لسُمِعَ صوت سقوطها في البرازيل، ولو همس أحدهم في الدانمارك، لسُمعَ همسه صُراخاً في جنوب أفريقيا..!
أغمضت سارة عينيها، فراحت إيفا تراقبها، وهي تعلم علم اليقين ما يخالج أعماقها، وكيف عادت، لحظةَ الإصابة، إلى يوم 22 أبريل 2020 رغماً عنها، فسمعت سارة عمر يقول من المطبخ: «تعالي يا سارة، أنت لم تتناولي شيئاً منذ مساء أمس، لدينا سلطة الشمندر التي تحبينها.. تعالي».

فعلاً، كانت سارة جائعة، فجلست تأكل على غير هدى، ظنّت أن عمر يراقبها، ويفكر في عقلها الذي ما زال مشغولاً بأول مُصاب في العالم، وأنه يحاول الآن أن يخرجها من هذا العالم، الذي انغمست فيه حتى الثمالة، منذ «كورونا» في عام 2020، حين تحولت سارة إلى آلة تُنتج الأخبار، وتبحث عن أي طريقة لتطوير وسائل نقلها إلى البشرية، فتعاقدت في عام 2020 مع شركة «واتس آب»، لتوزيع أخبارها إلى 50 مليون مشترك، ثم استمرت تزور العلماء وشركات التقنية والمخترعين، وتبحث معهم عن آخر التقنيات التي يمكن استخدامها في نشر الأخبار، إلى أن أنتجت تطبيقاً خاصاً، يبث الأخبار عبر الأقمار الصناعية، إلى جهاز صغير خاص، أطلقت عليه اسم «جلوبال كول نيوز»، يظهر كشاشة ليزيرية لدى كل المشتركين، إضافة إلى اهتمامها بالبيئة وظاهرة الاحتباس الحراري، التي شغلتها مدة 15 عاماً. فجأة سمعت عمر يقول: «قررت التقاعد».

انطلت الخدعة الذهنية على سارة مرتين، الخدعة التي صممتها بنفسها بالتآمر مع إيفا، حين تتأزم، وتحتاج إلى فسحة ذهنية تُخرجها من اضطرابها، فقالت: «لا، لا، أنت تعلم أنني ضد مفهوم التقاعد، أنت الذي قلت إن الإنسان لا يتقاعد، إما أن يكون مُنتجاً وإما أن يكون ميتاً..»، فظهرت إيفا أمامها فوراً، في أعلى درجات التركيز، فيقول عمر: «هذا قراري النهائي، أريد أن أرتاح، قد أجد لي مكاناً هادئاً بعيداً منعزلاً قرب بحر ساكن، وأجلس فقط للتأمل، ولا شيء آخر، لا قراءة ولا كتابة ولا ندوات ولا لقاءات»، فنظرت سارة في عينيّ إيفا الخضراوين، ورأت فيهما المكان الذي يقصده عمر، وفجأة ذُكّرت بالمصاب، وانطلت الحيلة عليها مرة أخرى، فتاهت بين مشاعرها وأفكارها، فأنهت طعامها، وهي لا تزال تنظر في عينيّ إيفا، وعادت تتسمر أمام شاشاتها التي انتقلت إلى الصالة، كادت إيفا، ولأول مرة، منذ اختراعها وتطويرها، أن تبكي دموعاً حقيقية، على الصديقة الشقيّة المعذبة، سارة وقّاص، لكنها تمالكت نفسها، وحافظت على أعلى درجات التركيز.

كانت «كاتيوس» قد بدأت بثاً مباشراً، يُظهر المصاب الأول «فُرات» التركي، تحت أجهزة العلماء والأطباء المُقنّعين، وهم يحاولون فحص التغييرات التي طرأت عليه منذ دخول الفيروس إلى عقله، كان العالم كله، دون استثناء، يراقب «فُرات»، نصف العالم الذي بلغ تعداده 11 ملياراً، يدعو له بالشفاء، والنصف الآخر يدعون عليه بالموت، الجميع غير مهتم بـ «فُرات» نفسه أو عائلته، بل هو اهتمام نابع من مصالحهم الشخصية، فالنصف الأول، يظنون أن شفاء «فُرات» سيمنع عنهم الفيروس، ويمكّن العلماء من إيجاد علاج ولقاح فوري ضده، وأنهم بذلك سيعودون لحياتهم اليومية، والنصف الثاني، يظنون أن موت «فُرات» سوف يقتل الفيروس للأبد..!

بدأ الجدل يتصاعد، عبر المنصات المختلفة، كيف سمحت حكومة الطوارئ الدولية لكاتيوس، ببث إجراءات الفحص التي تُجرى لـ «فُرات»، منها منظمات حقوقية إنسانية، شخصيات، ومشاهير يبحثون عن النجومية، وراح البعض يؤيد هذا الإجراء. البعض الآخر رأى الموضوع مسلياً، في ظلّ العزل الكامل الذي جعل الناس، يعودون مرة أخرى إلى بيوتهم، يُعيدون بناء أسرهم التي تفككت وتشرذمت قبل العزل، فكانت تمر شهور دون أن يلتقي الأب أبناءه، يستخدمون التقنيات للاتصال عن بعد، فضاعت السُلطة في البيت، ونشأت أجيال تفتقد إلى الحدود الدنيا من التربية السليمة، وفي آخر إحصائية لعام 2048، تبين أن عقول الأجيال من 4- 24 عاماً، وبنسبة 93 %، لا تحتوي على أي معلومة ثقافية من أيّ نوع، حيث أصبح من المستحيل مثلاً اكتشاف الغش في الامتحانات المدرسية، فتقدمت وسائل الغش التقنية، على مناهج التعليم عن بُعد، آلاف الخطوات، وأصبحت الفجوة هائلة لا يمكن ردمها.

خلال لحظات البث، التي تابعتها سارة، وتحدثت فيها مع تاليا، واطمأنت عليها وعلى ولديها التوأم الجميلين، اللذين أنجبتهما في عام 2037، وسألت عن أعمالها التي تتولاها تاليا جميعاً، وتشرف أيضاً على مركز الاتصال الرئيس، فقالت تاليا: «كل شيء تمام، لولا هذا الهاكفيت الذي يغزو العالم، ومع ذلك، وكما أرى أمامي، فأنت متعبة بصورة فظيعة، أرجوك يا خالة، أرجوك أن ترتاحي قليلاً»، فوعدتها سارة بذلك، ثم اقترنت بشيخة، فوجدتها تتابع ما يجري على كاتيوس. قالت شيخة إنها ضد هذا العرض الحي، وإنه قد يكون مؤلماً لعائلة «فُرات» ولكثير من الناس، حيث ينتهك الخصوصية. خلال ذلك، اشتعل جدال سياسي آخر، يناقش نظرية المؤامرة في تخليق هاكفيت، واتهام روسيا بتصنيعه، ثم ردّ روسيا بأن الصين هي التي عبثت بطبقة التروبوسفير، ثم دفاع الصين أن أمريكا وروسيا وأوروبا، وبعد أن اتحدوا ضدها، يحاولون إلصاق التهمة في الصين، وجدال ثالث، حول مكافحة هاكفيت، فادّعى كثيرون أنهم قد وجدوا علاجاً لهاكفيت، وبإمكانهم تزويد كاتيوس به، وادّعى آخرون أنهم وجدوا مواد كيميائية يمكنها إبادة هاكفيت العالق في الجو، وأن لديهم تجارب ناجحة حول ذلك، فنظرت سارة إلى إيفا، تتساءل إن كان هناك دليل على موت فيروس واحد في العالم، فهزت إيفا رأسها تنفي ذلك.

خلال تلك الجدالات العقيمة الصاخبة، أكدّ العلماء في كاتيوس، أن فيروس هاكفيت لم يستهدف رئتي «فُرات»، بل كان يستهدف دماغه للدخول إلى الأعصاب القحفية، ثم مهاجمة النخاع الشوكي، فتحول العالم فجأة، على وقع هذا الخبر، إلى مستشفى مجانين كبير، خرج رجال الدين المتشددون، يتحدثون عن العقاب الإلهي، وعن نهاية العالم، وأن هذا الفيروس هو ملك الموت الذي سيصرع البشرية في ساعتين، فصدّقهم كثير من الناس، فجُنت سارة، ولم تتمالك نفسها، قالت لنفسها إنها إلى تحتاج نصيحة فورية، فقد يظهر من يود الموت أو الانتحار الآن، فيخرج من العزل، فأحست أن عمر يغمض عينيه، متأملاً نظريتها حول الانتحار، وسمعته يقول: «فعلاً، قد تظهر رغبة في الانتحار الجماعي، عليك أن تتحركي بسرعة، اكتبي وانشري: «هاكفيت مجرد فيروس، هذه ليست نهاية العالم، فلنستمع إلى العلماء فقط»».

خبا صوت رجال الدين، على وقع انتشار رسالة سارة، فالناس يحبّونها ويصدّقونها، ولكن الجدل لم يتوقف، ظهر المشعوذون وأصحاب الوصفات العشبية، يدّعي كل واحد منهم أن لديه علاجاً يقهر هاكفيت، فطلبت سارة من إيفا أن تقرأ مكونات تلك المركبات، التي انتشر الطلب عليها بقوة، وأرسلت لصديقها الدكتور مروان ماجد، الذي أصبح يمتلك معهداً متخصصاً لدراسة الفيروسات، فأكدّ لها أن تلك المكونات ليس لها علاقة على الإطلاق بعلاج أي نوع من الفيروسات، لا من قريب ولا من بعيد..!

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

Email