إنجازات ثقافية وحضارية عالمية تحققها دبي على الدوام وتضاف إلى سجلها الحافل بالنجاحات، ومنها إدراج المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو» مؤخراً،
مبنى «دار الاتحاد» في دبي، ضمن سجل التراث المعماري والعمراني العربي، بين 19 موقعاً عربياً اشتملت عليها القائمة الأولى في دورة 2025.
هذا المبنى التاريخي الذي شهد توقيع اتفاقية تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971 يشكل قيمة وطنية وأيقونة ثقافية تحتفي بها الأجيال على مر السنين، وها هو اليوم يكتسب مكانة كبرى على المستوى العربي بهذا التصنيف الذي يضيء على أهميته، ويضعه في مصاف معالم تاريخية تسرد قصصاً للحضارة الإنسانية والتراث الأصيل.
قيمة حضارية
وفي هذا السياق، أكد علي عبيد الهاملي، نائب رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم بدبي، لـ«البيان»، أن ثمة أمكنة لا تحتل مكاناً في الجغرافيا فحسب، بل تكتب أسماؤها على صفحات التاريخ، وتغرس جذورها في وجدان الأمة، مشيراً إلى أن مبنى «دار الاتحاد» واحد من تلك الأمكنة النادرة التي تتحول إلى أيقونة وطنية، فقد شهدت قاعاته وممراته ميلاد الحلم الإماراتي الكبير في الثاني من ديسمبر عام 1971، يوم اجتمع المؤسسون على قلب رجل واحد، ليزفوا إلى العرب والعالم قيام دولة وحدت القلوب قبل أن توحّد الشعوب، ويرفعوا علم دولة الاتحاد، معلنين قيام دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقال الهاملي: «اليوم، ونحن نحتفي بإدراج «دار الاتحاد» في دبي ضمن سجل التراث المعماري والعمراني العربي الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، فإننا لا نحتفي بمجرد قرار، وإنما نحتفي باعتراف عربي جامع بالقيمة الرمزية والحضارية لهذا المعلم الفريد.
إنه ليس مبنى جامداً من رمال وحجارة، بل هو ذاكرة متقدة، تحفظ صور الرجال الذين صنعوا التاريخ، وأصواتهم وهي تتعاهد على بناء وطن عصري، متشبث بجذوره، منفتح على المستقبل».
ولفت إلى أن مبنى «دار الاتحاد» يتميز بسمات معمارية تعكس روح العمارة المحلية في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي؛ بساطة تنبض بالأصالة، ورمزية في التصميم، ومواد تروي حكاية الارتباط بالأرض، موضحاً أن في داخله تواصل التاريخ الحديث مع عمق الموروث، فشهد إلى جانب توقيع اتفاقية إعلان قيام الاتحاد، لقاءات ومداولات وأحداثاً شكلت محطات مفصلية في مسيرة الوطن، كما شهد مناسبات وطنية جسدت روح التضامن والعمل المشترك في البدايات الأولى لمسيرة الاتحاد.
تجربة معرفية ثرية
وأكد أن إدراج هذا المعلم في سجل التراث المعماري والعمراني العربي يحملنا مسؤولية أكبر تجاه استثماره في خدمة الوعي الوطني، وتحويله إلى مركز حيّ للتاريخ، يفتح أبوابه للزوار والطلاب والباحثين، ويقدم لهم تجربة معرفية وثقافية ثرية، عبر معارض وفعاليات تحكي قصة الاتحاد بلغة الصورة والصوت والتفاعل، منوهاً بأن هيئة الثقافة والفنون في دبي «دبي للثقافة» قد أحسنت استثمار المكان عندما أقامت فيه «متحف الاتحاد»؛ ليكون مزاراً سياحياً فريداً، ومركزاً حيوياً للأنشطة الثقافية والتاريخية.
وبهذا تواصل دبي كعادتها الجمع بين الأصالة والحداثة، لتثبت أن الحفاظ على التراث ليس عودة إلى الماضي، بل هو عبور واعٍ نحو المستقبل، مسلح بالذاكرة والهوية.
بساطة واتساع
وأشارت الأديبة الدكتورة رفيعة غباش، مؤسسة «متحف المرأة» في دبي، إلى الجانب المعماري لمبنى «دار الاتحاد»، الذي يتميز بالبساطة والاتساع وحيوية الحركة فيه، شأنه شأن المباني القديمة التي تكون عادة مرحبة وغير معقدة في تفاصيلها، مؤكدة أن هذه الطبيعة المعمارية للمبنى التاريخي جعلته مهيأ لاستقبال الحكام والمسؤولين.
وقالت الدكتورة رفيعة: «ما إن تدخل هذا المكان حتى تستحضر تلك القامات الأصيلة التي سعت وحرصت على تأسيس الاتحاد، وفي رأيي أن هذا المبنى هو الأهم في دبي بعد قصر زعبيل، وقريباً منه كان هناك قصر للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، يسمونه «المضيف»، وكان يستقبل فيه ضيوف دبي الرسميين، ثم تم إنشاء «متحف الاتحاد» ليعزز مكانة هذا الموقع، ولا شك أن من اقترح تصميمه كان في منتهى الذكاء؛ لأنه أنشئ على هيئة وثيقة ليشير إلى الوثيقة التاريخية التي أُسست بمقتضاها دولة الإمارات العربية المتحدة».
وتطرقت إلى الحديث عن البعد الثقافي لمبنى «دار الاتحاد»؛ إذ رأت أن «متحف الاتحاد» يستمد مكانته من المبنى القديم لـ«دار الاتحاد» المجاور له، موضحة أن هذا المشهد المعماري يحقق ربطاً رمزياً بين تاريخ عريق وحاضر ينبئ بمستقبل واعد مبهر لهذه الدولة التي ارتكزت في قيامها على بعد إنساني كان حاضراً بوضوح قبل الأبعاد السياسية.
وأضافت: «الدوافع الإنسانية هي التي حركت جهود المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما، فأدركا أن ثروات المنطقة غير متوازنة بين الأطراف، ومن ثم تولدت لديهما رغبة في مشاركة الآخرين ضمن اتحاد راسخ يجمع الإمارات كافة، الأمر الذي أدى إلى تأسيس دولة قوية امتزجت فيها جميع الأطراف، فأذابت كل الفروق».
وأشادت بالخطوة المهمة التي أقدمت عليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) بتوثيق هذا المبنى التاريخي في سجل التراث المعماري والعمراني العربي، مشيرة إلى أن العالم في العصر الراهن يبحث عن القيم الأصيلة التي يحتفظ بها التاريخ وانعكاساتها على حاضر الإنسان، وهذا ما يتمثل في مبنى «دار الاتحاد» الذي يعيد الذاكرة دائماً إلى أولئك الرجال الذين صنعوا المعجزة.
أهمية ثقافية
وأكد المهندس رشاد بوخش، رئيس جمعية التراث العمراني ونائب رئيس المنظمة العربية للمتاحف، أن مبنى «دار الاتحاد» يعد من أهم المباني التاريخية والثقافية في دولة الإمارات، موضحاً أن هذا الموقع التراثي يشتمل على المبنى الدائري المشهور الذي تم فيه توقيع اتفاقية تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر عام 1971، إضافة إلى المبنى الدائري الذي كان مجلساً في الأساس، وكذلك تضمنت «دار الاتحاد» مكتب المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، الذي جرى ترميمه قبل سنوات عدة، ومجلس الاستقبال، وقاعة الضيافة الكبيرة للغداء والعشاء التي استُقبل فيها العديد من الرؤساء والمسؤولين.
وتابع: «إلى جانب ذلك بُني «متحف الاتحاد» الذي يحكي تاريخ الإمارات من عام 1966 حتى 1971 عند تأسيس الدولة، ومن هنا تبرز القيمة الثقافية الكبرى لهذا المبنى»، لافتاً إلى أن تسجيل مبنى «دار الاتحاد» ضمن 19 موقعاً عربياً ضمن قائمة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) يمنحه أهمية قصوى على مستوى الدول العربية.
وتناول المهندس رشاد أبرز السمات المعمارية والملامح التراثية التي يتميز بها هذا المبنى التاريخي ذي الطراز الذي يجمع بين البساطة والجمال؛ إذ ينتمي إلى حقبة عمارة الستينيات التي تشكل بداية استخدام الأسمنت والخرسانة والزجاج ومواد البناء الحديثة، وكذلك استخدام الخرسانة في الأسقف، مبيناً أن المباني الدائرية من هذا النوع تقوم على فكرة أن جميع الحضور يكونون على مستوى واحد بحيث لا يوجد رئيس للجلسة.
وأضاف أن الشكل الهندسي للمبنى الدائري كان مهيأ بنظامه هذا لاستضافة الاجتماعات الخليجية التي انعقدت إبان العمل على تأسيس الاتحاد، مثل الاجتماع التساعي الذي ضم الإمارات السبع إلى جانب قطر والبحرين، مشيراً إلى ما يوحيه هذا التصميم من التساوي بين المجتمعين، حيث الطاولة المستديرة التي تتوسط المجلس.
أحداث تاريخية
وعن الأحداث التاريخية التي شهدها مبنى «دار الاتحاد»، ذكر المهندس رشاد أنه بني عام 1965، واحتضن في 16 نوفمبر 1966 أول حدث رئيس وهو اجتماع حكام إمارات الخليج.
وتابع: «في عام 1968 زاره العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال الإمارات، وفي عام 1969 كانت زيارة العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وجرت مراسم استقبالهما في هذا المبنى التاريخي بدبي».
ولفت إلى ضرورة استثمار تسجيل «دار الاتحاد» في سجل «ألكسو» بصورة تعزز مكانة دبي الثقافية، داعياً إلى بذل الجهود في سبيل تسجيل مواقع أخرى مثل «ساروق الحديد» في «ألكسو»، وكذلك في لائحة التراث العالمي «اليونسكو»، منوهاً بالإنجاز الذي تم أخيراً بإدراج موقع «الفاية» على قائمة التراث العالمي الذي يعد ثاني موقع في دولة الإمارات ينال هذا الاعتراف العالمي بعد المواقع الثقافية في مدينة العين التي أدرجت عام 2011.