على وقع ضجيج الحرب التي يشنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، ومع دخول تلك الحرب أسبوعها السادس، تخرج أصوات تستشرف مشهد نهاية الجولة الأعنف من التصعيد، على شكل تقارير تنقل عن أطراف الصراع سرعان ما تناقضها تقارير أخرى تشير إلى استمرارها لفترة ليست بالقصيرة.
ويرى مراقبون أن حسابات الرد الإسرائيلي على الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي تتداخل فيها عدة عوامل، لاسيما في ظل رغبة الحكومة الإسرائيلية في أن يكون هذا الرد مختلفاً عن أي جولة تصعيد سابقة بما يتماشى مع حجم الصفعة التي تلقتها إسرائيل. فلم يخف المسؤولون الإسرائيليون منذ اللحظة الأولى رغبتهم في القضاء تماماً على حماس وإخراجها من المعادلة بصورة نهائية بعد الخسائر غير المسبوقة التي ألحقتها بهم الحركة في 7 أكتوبر.
ولما كانت هذه الغاية تتطلب توغلاً برياً في القطاع ، الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005، للوصول إلى معاقل حماس والتأكد من تدمير شبكة الأنفاق التابعة لها، أثارت هذه المسألة جدلاً كبيراً داخل دائرة صنع القرار في إسرائيل وحتى لدى الإدارة الأمريكية، الداعم الأكبر لتل أبيب.
فبينما أعلنت الولايات المتحدة منذ اللحظة الأولى لهجمات 7 أكتوبر دعمها المطلق لإسرائيل في كل ما تتخذه من إجراءات "دفاعاً عن النفس"، نبهت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حكومة بنيامين نتنياهو أكثر من مرة لضرورة أن يكون لديها تصور واضح لمرحلة ما بعد الاجتياح البري وكيف سيكون الوضع في غزة ما بعد حماس.
وتجلت ضبابية الرؤية والتناقضات في هذه الجزئية أيضا، ففي بادئ الأمر، كان التأكيد الإسرائيلي حاضراً بشأن عدم وجود نية لإعادة احتلال القطاع وأن ثمة مهمة محددة سيقوم بها الجيش الإسرائيلي هناك.
لكن نتنياهو خرج من جديد خلال اليومين الماضيين ليثير جدلاً بتصريح كشف فيه عن نية للبقاء لفترة "غير محددة" في غزة حتى بعد انتهاء الحرب.
ففي مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الإخبارية الأمريكية، قال نتنياهو: "لا نسعى لحكم غزة، لا نسعى للاحتلال"، مشدداً على اعتزام إسرائيل تدمير حماس.
وأضاف :"سنواصل الحرب حتى نمحو حماس. لا شيء سيوقف ذلك"، دون أن يحدد مدى زمنياً لتحقيق هذا الهدف.
وتابع:"وضعت أهدافاً.. لم أضع جدولاً زمنياً لأنكم تعرفون أن الأمر ربما يستغرق وقتاً أطول، أتمنى أن يأخذ وقتاً قليلاً".
وتأتي هذه التصريحات بعد أيام من تصريحات لنتنياهو نفسه خلال مقابلة مع شبكة "إيه بي سي نيوز" قال فيها إن إسرائيل ستتولى "المسؤولية الكاملة عن الأمن" في قطاع غزة لفترة غير محددة.
وتتزامن هذه المواقف والتصريحات الملتبسة مع تحركات أمريكية لمناقشة المرحلة المقبلة ومستقبل القطاع الذي مزقته الحرب، والذي كشف مكتب الإعلام الحكومي في غزة الجمعة، أن إسرائيل أمطرته بنحو 32 ألف طن من المتفجرات منذ 7 أكتوبر الماضي، ما خلف دماراً "غير مسبوق وأكثر من 50% من الوحدات السكنية تضررت من جراء غارات وقصف الاحتلال في حين هدمت كلياً 40 ألف وحدة".
وكشف المكتب عن أن التقديرات الأولية للأضرار التي لحقت بالمباني والأبراج السكنية في غزة هي مليارا دولار، بينما قدرت أضرار البنية التحتية بنحو مليار دولار.
ويرى مراقبون أنه حتى الآن وعلى الرغم من مقتل نحو 12 ألف فلسطيني وجرح وفقد عشرات الآلاف الآخرين، يبدو هدف القضاء تماماً على حماس أمراً بعيد المنال، وأنه ليس من مصلحة إسرائيل الإغراق في محاولات إدراك هذه الغاية.
وبالفعل طرحت العديد من الأفكار بشأن إسناد المسؤولية عن أمن قطاع غزة لدول في المنطقة. ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن مسؤولين مصريين بارزين أن "الولايات المتحدة اقترحت على مصر إدارة الأمن في قطاع غزة بصفة مؤقتة"، إلا أن القاهرة رفضت.
وأوضحت الصحيفة أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ويليام بيرنز، ناقش هذا الطرح مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل "حتى تتمكن السلطة الفلسطينية من تولي المسؤولية الكاملة بعد هزيمة حماس".
كما نقلت تقارير إعلامية عن مصادر مصرية، أن القاهرة ترفض كذلك فكرة وجود قوات لحلف شمال الأطلسي (ناتو) أو أي قوات أجنبية داخل غزة بأي شكل أو تحت أي مسمى، وكذلك رفضها للوجود الإسرائيلي في القطاع.
وفي هذا السياق رأت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية أن الطريقة الوحيدة المؤكدة لهزيمة حماس تتلخص في استمرار العملية البرية والاحتلال الطويل الأمد، "وهو ما يتطلب من قوات الدفاع الإسرائيلية أن تتحرك ببطء وبشكل منهجي عبر المساحات المفتوحة والمناطق الحضرية للقبض على مقاتلي حماس وقادتها أو قتلهم".
وتابعت الصحيفة "هذا من شأنه أن يعرض حياة الإسرائيليين للخطر، وهو الخطر الذي يميل نتنياهو إلى تجنبه، لأنه يؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا الفلسطينيين، من المدنيين والمسلحين على حد سواء. وكلما طال أمد مثل هذه العملية، زاد احتمال تعرض إسرائيل لضغوط دولية متزايدة الشدة لإنهاء العملية، ربما قبل تحقيق الهدف العسكري".
ويضاف ذلك إلى ضغوط ودعوات داخل إسرائيل لعزل نتنياهو ومحاكمته لاتهامه بالفشل في الدفاع عن أمن المواطن الإسرائيلي أو حتى وجود تصور واضح لتأمين الإفراج عن الأسرى والمحتجزين في غزة، وهو ما قد يفسر لجوء إسرائيل للقوة المفرطة في محاولة لإنجاز المهمة الصعبة في أسرع وقت.
وأمام هذه المعطيات تظل سيناريوهات نهاية هذه الجولة الخطيرة من التصعيد في الشرق الأوسط مفتوحة على كل الاحتمالات وسط مصير غامض ينتظر مستقبل قطاع غزة الذي تحول إلى "جحيم على الأرض" وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).