"الشيفرة الوراثية"تحسم الجدل حول أصول "امرأة بيتشي هيد" البريطانية

في واحدة من أبرز تجليات "العلم الذي يصحح نفسه"، أسقطت تقنيات الجينوم الحديثة خرافة تاريخية صمدت لأكثر من عقد.

"امرأة بيتشي هيد"، التي احتفت بها الأوساط الأكاديمية منذ عام 2013 كأول مواطنة بريطانية سوداء من أصول أفريقية، تبين اليوم بفضل تسلسل الحمض النووي المتقدم أنها ولدت في إنجلترا بملامح أوروبية خالصة  !!

كشف باحثون يستخدمون تقنيات جديدة لتسلسل الحمض النووي أن امرأة قديمة كان يُعتقد لفترة طويلة أنها تنحدر من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وبالتالي كانت تُعتبر أول بريطانية سوداء معروفة، كانت في الواقع ذات بشرة فاتحة وتنحدر من جنوب إنجلترا.

وقد عُثر على بقايا هذه السيدة، التي أصبحت تُعرف باسم "امرأة بيتشي هيد"، ضمن مجموعات مبنى بلدية إيستبورن في جنوب إنجلترا عام 2012، وفقاً لدراسة حديثة نُشرت في مجلة العلوم الأثرية.

وأظهر التأريخ بالكربون المشع أنها توفيت بين عامي 129 و311 ميلادي، وهي الفترة التي كانت فيها بريطانيا تحت الحكم الروماني.

وكان العلماء قد استنتجوا في عام 2013 أنها جاءت من أصول أفريقية، مما منحها تميزاً تاريخياً كأول سمراء بريطانية معروفة، وذلك بناءً على قياسات أجزاء مختلفة من جمجمتها، وهي طريقة تقليدية لتقدير النسب العرقي.

لاحقاً في عام 2017، أدى تحليل يعتمد على تسلسل جيني منخفض المستوى بالباحثين إلى وضع فرضية بأنها قد تكون من منطقة البحر الأبيض المتوسط. والآن، سمحت التطورات العلمية المذهلة في العقد الأخير للباحثين باستخراج تسلسل حمض نووي عالي الجودة من بقاياها، مما كشف الحقيقة القاطعة بأنها ولدت ونشأت في جنوب إنجلترا.

وأكد ويليام مارش، عالم وراثة السكان في متحف التاريخ الطبيعي بلندن، أن استخدام تقنيات الحمض النووي الحديثة سمح بحسم أصول هذه السيدة بشكل نهائي، حيث تبين أنها تحمل أصولاً وراثية تشبه إلى حد كبير السكان المحليين في بريطانيا خلال العصر الروماني.

وقام الفريق بدمج هذه المعلومات الوراثية مع مسح ثلاثي الأبعاد لجمجمتها لإنشاء صورة دقيقة لما كانت تبدو عليه، والتي أظهرت امرأة بشعر أشقر، وبشرة فاتحة، وعينين زرقاوين، وهو ما يتناقض تماماً مع التصورات السابقة التي روجت لها الدراسات التقليدية.

وتشير تحليلات بقاياها إلى أن طولها كان أقل قليلاً من 1.52 متر، وكان عمرها يتراوح بين 18 و25 عاماً وقت وفاتها، كما كشفت مستويات الكربون والنيتروجين في عظامها أنها كانت تعتمد في غذائها بشكل أساسي على المأكولات البحرية.

ويرى الخبراء أن هذا الاكتشاف يمثل نموذجاً شفافاً لكيفية قيام العلم بتصحيح مساره؛ إذ لم تكن تقنيات تحليل الحمض النووي القديم متاحة بدقة عندما أجريت التحليلات الأولية التي اعتمدت على قياسات الجمجمة، والتي أثبتت التجربة الحديثة أنها قد تكون "مضللة" من الناحية العملية.

ويثير هذا التحول العلمي تساؤلات جدية حول استمرار الاعتماد على طرق قياس الجمجمة التقليدية التي نشأت في سياقات تاريخية مثيرة للجدل لمحاولة وضع تراتبية عرقية.

ويؤكد الباحثون أن فهمنا للتاريخ والوراثة في تطور مستمر، بفضل التكنولوجيا التي تسمح لنا اليوم بقراءة "الشيفرة الوراثية" بدلاً من التخمين بناءً على الملامح الخارجية، مما يفتح الباب لإعادة فحص الكثير من المكتشفات التاريخية التي قد تحمل هويات مغايرة تماماً لما اعتقدناه لسنوات.