يُحكى أن رجلاً نفخ قربة وربطها ثم نزل بها يسبح في النهر، وكانت ضعيفة الوكاء (أي الرباط)، فتسرب هواؤها وأوشك الرجل على الغرق، فاستغاث بشخص آخر واقفٍ على الشاطئ فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ، قاصداً بذلك أنه هو الذي ربط ونفخ، فلا يلومن إلا نفسه.
ينطبق هذا المثل العربي على حال الولايات المتحدة مع الصين، حيث حظرت الأولى تقنيات تكنولوجية متقدمة على الثانية لتجد الثانية نفسها مضطرة لتجاوز حظر الأولى، فتخرج للعالم بنموذج الذكاء الاصطناعي "ديب سيك"، بتقنية من إبداع عقولها، الذي هز أركان التكنولوجيا، وزلزل أسهم عمالقة الذكاء الاصطناعي ماحياً ما يربو على نصف ترليون دولار من قيمتها.
فبعد أن فرضت الولايات المتحدة، في أكتوبر 2022، قيوداً على تصدير الرقائق المتطورة إلى الصين، بهدف الحد من تقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي، اضطرت الشركات الصينية للبحث عن حلول بديلة، ما أدى إلى تسريع وتيرة الابتكار المحلي، ووفقاً لمقال نشرته "نيويوركر"، فإن هذه القيود حفّزت المهندسين الصينيين لإيجاد طرق إبداعية تقفز فوق نقص الرقائق المتقدمة.
تمكنت شركة "ديب سيك" من تطوير نموذج ذكاء اصطناعي يُدعى "R1"، يتميز بأداء عالٍ وكلفة منخفضة، ما أثار اهتماماً عالمياً، فهذا النموذج الذي يعتمد على معالجات أقل تطوراً، يُظهر قدرة الصين على الابتكار في ظل القيود المفروضة. وبحسب تقرير لـ"بي بي سي"، فإن "ديب سيك" يُعد روبوت محادثة مجانياً يعمل بالذكاء الاصطناعي، مشابهاً لـ"تشات جي بي تي"، ومصمماً للإجابة عن الأسئلة وتحسين حياة المستخدمين بكفاءة.
يعتمد الذكاء الاصطناعي في ازدهاره على مئات آلاف المعالجات الرسومية المعروفة اختصاراً بالـGPU، التي ترتكز بدورها على أشباه الموصلات التي يطلق عليها «الرقائق المتطورة»، تلك الرقائق هي الثروة التي تمتلك إنفيديا تكنولوجيتها، وهو ما أدى إلى الصعود المذهل لقيمة شركة إنفيديا وأسهمها، وساهم بشكل هائل في التطور السريع لكبرى منصات الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي وغيرها.
وإذا اعتبرنا أن المعالجات الرسومية GPU هي غذاء الذكاء الاصطناعي، فإن شركات التكنولوجيا الصينية واجهت عبر سنوات ما يمكن أن نطلق عليه «مجاعة» منذ الحظر الأمريكي على مبيعات الرقائق الإلكترونية المتطورة للصين، ذلك القرار الذي منع التنين الآسيوي من الاعتمادية، وجعله يدرك أن الوقت قد حان للابتكار والخروج من دائرة المستخدم لعالم المصنعين والمبتكرين، فكيف استطاعت الشركات الصينية التحايل على الحظر والعودة لسباق الذكاء الاصطناعي بأقل الإمكانيات؟
احتاج تدريب «لاما 3» أحدث موديلات الذكاء الاصطناعي الخاص بشركة ميتا إلى 16 ألف معالج من طراز H100 المتطور من إنفيديا، وتسعى ميتا إلى زيادة هذا العدد بـ600 ألف معالج قبل نهاية العام.
قرار الولايات المتحدة الأمريكية حظر بيع المعالجات القوية والمتطورة للصين، وضع الشركات الصينية في مأزق وجودي، وفي خضم السباق الشرس اضطر بعضها للجوء، للسوق السوداء والأسواق الموازية الأخرى من أجل شراء تلك المعالجات الثمينة، وفقاً لتقرير نشرته «ذي إيكونوميست»، بالتوازي مع استراتيجية تركز على استغلال الموارد المتاحة أقصى استغلال ممكن، بشكل مثير للاهتمام.
شركة «ديب سيك» الصينية ومقرها مقاطعة هانجو دشنت في سبتمبر من العام الماضي نسخة 2.5 من الذكاء الاصطناعي الخاص بها، والذي ينافس النماذج الرائدة مفتوحة المصدر فيما يتعلق بالبرمجة، ويعتمد على 10 آلاف معالج من المعالجات الأقدم من إنفيديا، وهو رقم ربما كبير بالنسبة للشركات الصينية، لكنه صغير مقارنة بالمعايير الأمريكية، وتطور الأمر في فبراير من عام 2024 بإطلاق الشركة نموذجها من الـ«LM» أو نموذج التعلم، والمعتمد على رقائق قديمة ممزوجة بأخرى محلية الصنع، ومراكز بيانات صينية بإمكانيات لا تضاهي إمكانيات أوبن إيه آي ومايكروسوفت، ليخرج برنامج «ديب سيك» بإمكانيات أرعبت السوق الأمريكية، وخسرت البورصة تريليون دولار في يوم واحد.
الرعب لم يكن بسبب نموذج الذكاء الاصطناعي وحده، ولكن السبب الأبرز للرعب في بلاد العم سام، هو كيف وصل النموذج الصيني إلى ما وصل إليه من مستوى دون رقائق أمريكية، تماماً مثلما حدث من رعب أمريكي في وقت سابق عندما طرحت هواوي الصينية جهازاً بمعالج «كيرين» بمعمارية 7 نانوميتر بصناعة صينية محلية. تلك التكنولوجيات ترعب الولايات المتحدة مالكة التكنولوجيا، التي تعتبر أسرار تلك المعالجات والرقائق ثروتها القومية، ومجرد اقتراب منافس من معدلات قريبة من تكنولوجيتها يصنع رعباً في القطاع الاقتصادي الأمريكي.
نموذج «ديب سيك» يتعامل مع النقص في العدد والتطور بأفضل شكل ممكن وبأفكار من خارج الصندوق فنياً، فمثلاً يعتمد على شبكات متعددة من «الخبراء الافتراضيين»، كل واحدة منها متخصصة في حل مشكلة أو مهمة معينة، ويقوم النموذج بتوزيع كل مشكلة على «الخبير الافتراضي» المناسب، وهو ما يؤدي إلى تحسين السرعة وتقليل وقت المعالجة، ما يؤدي بدوره إلى نتائج في وقت أقل.
ربما نتائج «ديب سيك» ليست أكثر دقة ولكن كبداية للنموذج ومع التعلم وجمع البيانات سيصير أكثر قدرة وكفاءة بإمكانيات أقل، وفي الوقت نفسه دون معرفة للولايات المتحدة بسر الخلطة.. وعدم المعرفة بسر الخلطة يعد كابوساً أمريكياً من الناحية الأمنية تماماً مثل خوارزميات «تيك توك» التي تعد سر الخلاف الأمريكي مع الصين في ملكية التطبيق، تلك الملكية التي تلوح دائماً الولايات المتحدة بسعيها لنزعها من الصين لتحل لغز خوارزمياته.
وبالرغم من أن «ديب سيك» يعتمد على 236 مليار معامل متغير (بارامتر)، وهي قيمة قابلة للتعديل تُستخدم لتدريب النموذج، فإنه لا يستهلك أكثر من عُشر هذا العدد لمعالجة أي مجموعة من المدخلات الجديدة، ويقوم بضغط المعلومات الجديدة أولاً بأول، وهو ما يسمح بالتعامل مع المعطيات كبيرة الحجم بشكل أكثر كفاءة من النماذج التقليدية.
حلول مبتكرة
لا يقتصر الأمر على «ديب سيك» فحسب، بل هناك العديد من الشركات التي وجدت حلولاً مبتكرة لأزمة النقص في الموارد، مثل نموذج MiniCPM، الذي طورته جامعة تسينغوا وشركة موديل بيست الناشئة، ويأتي بـ2.4 مليار معامل متغير فقط، وعلى الرغم من عدد المتغيرات الصغير نسبياً، فإن هذا النموذج يقدم أداءً يعادل 13 مليار متغير، أي ما يقارب 6 أضعاف قدراته الأصلية. ومثل «ديب سيك»، يعتمد النموذج على نهج الخبراء الافتراضيين وضغط المدخلات، من أجل الحصول على أداء يفوق قدراته.
رغم هذه النجاحات، تواجه الصين تحديات تتعلق بالاعتماد على الرقائق الأجنبية، ومع ذلك، يُتوقع أن تستمر الشركات الصينية في تحقيق تقدم ملحوظ في بناء قدراتها الذاتية، ما قد يؤدي إلى تحقيق قفزات نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي.