لطالما كان الفضاء مسرحاً للأحلام الكبرى، لعالمٍ يتخيل مستقبل البشر بين النجوم، واليوم، تقف البشرية عند مفترق طرق محفوف بالتحديات، حيث بدأت رحلة طموحة ومكلفة للغاية لتحويل هذه الأحلام إلى واقع ملموس.
في العالم الغربي، ربما لا أحد له تأثير أكبر على شكل هذا المستقبل من المليارديرين إيلون ماسك وجيف بيزوس، حيث تتجاوز ثروتهما مجتمعة 630 مليار دولار، وهو مبلغ يقارب ما أنفقته وكالة ناسا خلال تاريخها الممتد 66 عاماً.
رغم اختلاف رؤاهما، يشترك الاثنان في طموح عظيم، إخراج البشر من كوكب الأرض. ماسك يركز على المريخ، متخيلًا مستوطنة بشرية مكتفية ذاتيًا على الكوكب الأحمر، بينما يركز بيزوس على الفضاء القريب، مع مستعمرات صناعية دوارة حول الأرض، تهدف إلى نقل الصناعة الثقيلة والملوثة بعيدًا عن كوكبنا، مع إبقاء الأرض كموطن آمن ومتنزه طبيعي.
يقول فيل ميتزجر، فيزيائي الكواكب: "إنها لحظة استثنائية، وكأن أحدهم كتب هذا السيناريو، وإذا تم التخطيط لها بشكل صحيح، يمكن أن تفتح آفاقًا أخلاقية وبشرية جديدة."
لكن أليس جورمان، عالمة آثار الفضاء، ترى أن الاستيطان الفضائي ليس ضرورة أخلاقية عاجلة، خاصة في مواجهة قضايا الأرض واحتياجات سكانها الحالية.
مهمة ماسك والمريخ
منذ تأسيس سبيس إكس عام 2002، ركز ماسك على إنشاء مدينة مكتفية ذاتيًا على المريخ، تبدأ بقوافل من الروبوتات والبشر في مساكن مغلقة، وربما في منطقة أركاديا المريخية. ويأمل ماسك في تحويل المريخ تدريجيًا إلى كوكب شبيه بالأرض، عبر "تشكيل الأرض" وخلق غلاف جوي مناسب ودورة مياه مستقرة، رغم أن العلماء يختلفون حول إمكانية ذلك فعليًا.
تتضمن رؤية ماسك إرسال مركبات متعددة محملة بالبنية التحتية، مع خطط لإقامة شبكة من المزارع والمرافق السكنية والصناعية الصغيرة، بحيث تصبح المستوطنة قادرة على دعم نفسها دون الاعتماد على الإمدادات الأرضية بشكل كامل. ورغم المخاطر البيئية والفيزيائية، يؤكد ماسك أن هذا المسعى يشكل "تأمينًا على حياة البشرية" في حال حدوث كارثة على الأرض.
رؤية بيزوس للمستعمرات الفضائية
أسس بيزوس شركة بلو أوريجين عام 2000، ويرى أن البشر ليسوا مضطرين للاستيطان على كوكب آخر، بل يمكن أن يعيشوا في محطات فضائية ضخمة تدور بالقرب من الأرض، مستوحاة من أفكار الفيزيائي جيرارد أونيل.
مستعمرات أونيل هي محطات فضائية ضخمة تدور لتوفير جاذبية اصطناعية عبر القوة الطردية. يمكن أن تستوعب ملايين البشر، وتضم مساحات سكنية وزراعية وصناعية، ما يجعلها بمثابة مدن كاملة في الفضاء. تهدف هذه المحطات إلى توفير بيئة مستقرة وآمنة بعيدًا عن المخاطر الكوكبية، مثل الكوارث الطبيعية أو التغيرات البيئية على الأرض، كما تتيح الاستفادة من الموارد الفضائية، مثل المياه المتجمدة على القمر والمعادن النادرة.
يُركز بيزوس على إنشاء بنية تحتية فضائية قابلة للتوسع، ويعمل على تطوير صاروخ نيو جلين ومركبة هبوط قمرية تُدعى بلو مون، ما يسهل استخراج الموارد القمرية لدعم المستعمرات، ويجعل الحياة في المدار القريب أكثر واقعية وأمانًا مقارنة بالمخاطرة بالسفر إلى المريخ.
التحديات والتوقيت
ماسك وبيزوس يسيران على جداول زمنية مختلفة. بينما يبدي بيزوس تحفظه حول بناء مستعمرات أونيل، يواصل ماسك الدفع بإصرار لتطوير مركبة ستارشيب، التي يُأمل أن تُمكّن من تأسيس أول مستوطنة مريخية خلال السنوات الخمس المقبلة. ومع ذلك، فإن التحديات الهندسية والبيئية هائلة، وتشمل تأثيرات الانبعاثات على طبقة الستراتوسفير والاحتباس الحراري، وفقاً لشبكة "CNN".
تعمل ستارشيب على تجاوز حدود التكنولوجيا الحالية، حيث يبلغ ارتفاع المركبة 121 مترًا، وقد أُطلقت عشر رحلات تجريبية بدرجات متفاوتة من النجاح، مع تحطم أجزاء منها في ست من هذه المحاولات. ومع ذلك، فإن الطموح يكمن في إمكانية نقل مئات البشر والبنية التحتية إلى المريخ بشكل متسلسل، ما قد يحقق حلم إنشاء مستوطنة مكتفية ذاتيًا خلال عقد واحد.
دور القطاع الخاص والحكومة
تلعب شركات مثل سبيس إكس وبلو أوريجين دورًا محوريًا، إذ أصبحت قوة مؤثرة في استكشاف الفضاء، إلى جانب وكالات فضاء مثل ناسا. مشاريع مثل برنامج أرتميس تُظهر كيف تتحول وكالة ناسا إلى الاعتماد على القطاع الخاص لتطوير تكنولوجيا جديدة، مما يمنح المليارديرات تأثيرًا غير مسبوق على شكل المستقبل الفضائي.
هذه الديناميكية تمنح القطاع الخاص القدرة على الدفع باتجاه الابتكار بسرعة أكبر من المؤسسات الحكومية، لكنها تفتح أيضًا بابًا للأسئلة الأخلاقية والاجتماعية حول التفاوت في القوة الاقتصادية والسيطرة على الموارد المستقبلية في الفضاء.
الجانب المالي والاجتماعي
تحقيق هذه الرؤى قد يؤدي إلى اضطراب اقتصادي كبير، إذ قد تتفوق الصناعات الفضائية على الأرضية خلال عقود قليلة، ويتركز النفوذ في أيدي أصحاب رأس المال. يعتقد ميتزجر أنه يجب وضع سياسات لضمان توزيع المكاسب وتجنب التراكم الهائل للثروة.
كما يحذر الخبراء من أن الاعتماد على التكنولوجيا والروبوتات في الفضاء قد يزيد من سيطرة النخبة المالية على الموارد المستقبلية، ما يستدعي التفكير في طرق “لإضفاء الطابع الديمقراطي على ملكية الفضاء” خلال العقود القادمة.
المخاطر البيئية والفنية
تواجه البشرية مخاطر وجودية سواء على المريخ أو في المدار، من الإشعاع ونقص الضغط الجوي إلى تحديات الإنجاب. كما أن كثافة الإطلاقات الفضائية المستقبلية قد تؤثر سلبًا على الغلاف الجوي للأرض، مع احتمالية زيادة الغازات الدفيئة والكربون الأسود.
من جهة أخرى، يمكن للاستيطان القريب من الأرض أو استغلال الفضاء الصناعي أن يدعم المرونة البيئية لكوكبنا، عن طريق نقل الصناعات الملوثة بعيدًا، وفق رؤية بيزوس.
أمل البشرية ومستقبلها
رغم كل المخاطر، يرى ماسك وبيزوس في استكشاف الفضاء مستقبلًا مشوقًا للبشرية، وهو محفز للإبداع والابتكار. ويقول ماسك: "لا يمكن للحياة أن تقتصر على حل مأساة تلو الأخرى، يجب أن يكون هناك سبب للاستيقاظ والتطلع إلى المستقبل بحماس".
وبينما يحلم البعض بالعيش بين النجوم، يُذكّر الخبراء بأن البشرية ستظل في نهاية المطاف مضطرة للنظر إلى الأرض، موطنها الأصلي، كجزء أساسي من مستقبلها الفضائي.


