يشهد سوق العمل العالمي تحولاً دراماتيكياً نحو الأتمتة الكاملة، حيث بات الذكاء الاصطناعي هو "الحارس الجديد" لبوابات التوظيف في عام 2025. وبينما وعدت هذه التقنيات بتسهيل الربط بين الشركات والكفاءات، كشفت البيانات الميدانية عن واقع مغاير؛ حيث يواجه كل من أصحاب العمل والباحثين عن وظائف "حلقة مفرغة" من الإحباط التقني، مما يثير تساؤلات جوهرية:
هل أصبحت الخوارزميات عائقاً أمام اختيار الشخص المناسب بدلاً من أن تكون أداة مساعدة؟
تشير أحدث الإحصائيات الصادرة عن جمعية إدارة الموارد البشرية إلى أن أكثر من 50% من المؤسسات دمجت الذكاء الاصطناعي في عملياتها التوظيفية هذا العام، بينما اعتمد ثلث المتقدمين على أدوات مثل "شات جي بي تي " لصياغة طلباتهم.
ولا يقتصر هذا التوجه على الولايات المتحدة فحسب، بل هو جزء من نمو عالمي متسارع؛ حيث تشير تقديرات "مؤسسة جارتنر" إلى أن 80% من مديري التوظيف سيعتمدون على هذه الأدوات دورياً بحلول عام 2027، في ظل محاولات الشركات لخفض تكلفة التوظيف التي تتجاوز حالياً 4700 دولار للموظف الواحد.
ومع ذلك، رصدت دراسة مشتركة بين جامعتي "برينستون" و"دارتموث" ظهور معضلة تُعرف بـ (تزييف الكفاءة الرقمية)؛ حيث أصبحت خطابات التغطية (Cover Letters) والسير الذاتية المولدة آلياً تبدو "مثالية" تقنياً، لكنها تفتقر إلى الروح والمهارات الناعمة الحقيقية.
هذا التشابه الكبير في الطلبات جعل من الصعب على الشركات تمييز الموهبة الفعلية وسط آلاف الملفات المتطابقة، مما أدى في بعض القطاعات إلى انخفاض معدلات التوظيف الفعلية بنسب ملحوظة رغم كثرة المتقدمين.
على الجانب الآخر، تزايدت الضغوط على الباحثين عن عمل، حيث خضع 54% منهم لمقابلات تقودها بالكامل خوارزميات الذكاء الاصطناعي وفقاً لبيانات " جرين هاوس ".
"وعلى صعيد القوى العاملة، أطلق بنك الاستثمار العالمي جولدمان ساكس تحذيراً مدوياً مفاده أن الذكاء الاصطناعي قد يحل محل ما يعادل 300 مليون وظيفة بدوام كامل عالمياً، مؤكداً أن ربع المهام الوظيفية في الولايات المتحدة وأوروبا باتت عرضة للأتمتة الكاملة.
والمفاجأة التي كشفها باحثون من جامعة بنسلفانيا وشركة أوبن إيه آي - OpenAI هي أن التأثير لن يقتصر على المهن اليدوية، بل إن موظفي "الطبقة المتوسطة"والمهنيين الذين تتجاوز أجورهم 80 ألف دولار سنوياً هم الأكثر عرضة للتأثر بهذا التحول الرقمي."
"وفي قطاع الصناعة، تشير تقارير صادرة عن"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "وجامعة بوسطن إلى أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل نحو مليوني عامل في المصانع بحلول عام 2026.
هذا الضغط المتزايد أكده معهد ماكينزي العالمي، متوقعاً أن يضطر ما لا يقل عن 14% من الموظفين حول العالم إلى تغيير مساراتهم المهنية بالكامل بحلول عام 2030 نتيجة التطورات المتسارعة في الروبوتات والرقمنة.
ومع ذلك، يظل التفاؤل قائماً لدى البعض؛ إذ يرى (جولدمان ساكس) أن هذه الموجة قد ترفع القيمة السنوية للسلع والخدمات العالمية بنسبة 7%، مما يبشر بطفرة إنتاجية كبرى رغم الآلام الانتقالية."
ورغم وعود المطورين بأن هذه الأنظمة تقلل من الانحياز البشري، يحذر الباحثون من "خوارزميات متحيزة" قد تستبعد كفاءات بناءً على معايير عشوائية مثل الرمز البريدي أو لغة الجسد خلال المقابلة المرئية.
هذا التباين دفع 40% من الشركات العالمية للعودة إلى نظام (الاختبارات العملية الحية) كخطوة أولى لتجاوز فخ "المثالية الزائفة" التي يصنعها الذكاء الاصطناعي للمتقدمين.
قانونياً، لم يمر هذا التوسع دون مقاومة؛ إذ وصفت نقابات عمالية كبرى مثل "الاتحاد الأمريكي للعمل ومؤتمر المنظمات الصناعية" الاعتماد المطلق على الآلة في التوظيف بأنه "غير مقبول"، مشيرة إلى تزايد القضايا المرفوعة ضد شركات التوظيف بدعوى التمييز.
وبينما تسعى ولايات مثل كاليفورنيا وإلينوي لسن قوانين تنظيمية، أضاف الأمر التنفيذي الأخير للرئيس دونالد ترامب حالة من عدم اليقين حول المعايير الفيدرالية الموحدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، مما جعل الشركات والمتقدمين في حالة انتظار لما ستسفر عنه المعارك القانونية الجارية.
وللنجاح في هذا النظام الرقمي المعقد، ينصح خبراء المهنة الباحثين عن عمل بتبني استراتيجية "الأنسنة الذكية"؛ عبر استخدام الذكاء الاصطناعي للتنظيم والهيكلة فقط مع الحفاظ على بصمة شخصية واضحة في سرد الإنجازات، والتركيز على الكلمات المفتاحية (Keywords) التي تبحث عنها الخوارزميات دون حشو، والأهم من ذلك، العودة إلى بناء العلاقات المباشرة (Networking) لتجاوز "فلتر" الآلة الذي قد يترك خلفه أفضل الكفاءات لمجرد أنها لم تتقن لغة البرمجيات.
ورغم هذه التحديات التنظيمية، لا يمكن إنكار الوجه الآخر للعملة؛ إذ يشير معهد" ماكينزي "العالمي في تقرير حديث إلى أن الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على ضخ نشاط اقتصادي عالمي إضافي بنحو 13 تريليون دولار بحلول عام 2030، وهو ما يعادل زيادة بنسبة 16% في الناتج المحلي الإجمالي التراكمي العالمي. هذا النمو، الذي يقدر بـ 1.2% إضافية سنوياً، يضع الذكاء الاصطناعي في مصاف التقنيات الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ، مدفوعاً باستبدال العمالة بالأتمتة والابتكار الجذري في المنتجات والخدمات.
وتتوقع المحاكاة أن 70% من الشركات ستتبنى نوعاً واحداً على الأقل من تقنيات الذكاء الاصطناعي بحلول نهاية العقد الحالي."
"وفي هذا الصدد، تصف منصة "فوربس" الذكاء الاصطناعي بأنه من أكثر التقنيات المزعزعة (Disruptive) التي عرفها الاقتصاد العالمي، ومع ذلك، فهي ترى فيه أداة ستشكل مصير البشرية بشكل إيجابي عبر تبسيط حياتنا اليومية وحل المشكلات المعقدة.
وبينما يركز الخبراء في "بيرنارد مار وشركاه " على أن هذا التأثير التحولي سيكون له تداعيات اقتصادية وقانونية وسياسية بعيدة المدى تتطلب منا استعداداً فورياً، يتفق المختصون على أن الثمار الإيجابية ستشمل قفزات نوعية في الإنتاجية، وتطوير الرعاية الصحية، وزيادة فرص الوصول إلى التعليم المتقدم."