كشفت سلسلة من الدراسات الأكاديمية الحديثة، وفي مقدمتها بحث صادر عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، عن نتائج مثيرة للقلق تتعلق بتأثير الاعتماد المفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي مثل "شات جي بي تي " على النشاط الدماغي والمهارات الإدراكية للإنسان.
وأظهرت الدراسة، التي اعتمدت على تسجيل نشاط الدماغ عبر أجهزة تخطيط الدماغ الكهربائي لطلاب جامعيين، أن الأشخاص الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي لكتابة المقالات أظهروا نشاطاً أقل في الشبكات العصبية المرتبطة بالمعالجة المعرفية أثناء أداء المهمة.
ولم يقتصر الأمر على تراجع النشاط الذهني فحسب، بل وجد الباحثون أن هؤلاء المستخدمين واجهوا صعوبة بالغة في تذكر أو اقتباس محتويات المقالات التي أنتجتها الآلة مقارنة بأقرانهم الذين أنجزوا العمل يدوياً، مما يشير إلى خطر حقيقي يتمثل في تراجع مهارات التعلم والقدرة على الفهم العميق.
وتعزز هذه النتائج دراسة مشتركة بين جامعة "كارنيجي ميلون" وشركة مايكروسوفت، شملت مئات الموظفين الإداريين، حيث خلصت إلى أن الثقة الزائدة في قدرات أدوات الذكاء الاصطناعي تؤدي طردياً إلى انخفاض الجهد المبذول في التفكير النقدي.
وحذر الباحثون من أن تحول هذه الأدوات إلى وسيلة "لتفويض المهام الذهنية" بدلاً من كونها وسيلة مساعدة قد يؤدي على المدى الطويل إلى "ضمور معرفي" وفقدان المهارات اللازمة لحل المشكلات بشكل مستقل.
وتنسحب هذه المخاوف على قطاع التعليم المدرسي أيضاً؛ إذ أظهر استطلاع أجرته دار نشر جامعة أكسفورد أن 60% من الطلاب يشعرون بتأثير سلبي للذكاء الاصطناعي على مهاراتهم الدراسية، رغم إقرار الغالبية بأن هذه الأدوات ساعدتهم في مجالات أخرى مثل الإبداع والمراجعة، مما يرسم صورة معقدة تتأرجح بين الفائدة التقنية والضرر المعرفي.
وفي هذا السياق، يرى خبراء مثل البروفيسور واين هولمز من جامعة لندن ، أن المجتمع الأكاديمي والتربوي يفتقر حتى الآن إلى أدلة مستقلة واسعة النطاق تثبت سلامة أو فعالية هذه الأدوات في التعليم.
ويشير هولمز إلى ظاهرة "الضمور المعرفي" التي بدأت تظهر حتى في المهن الدقيقة مثل طب الأشعة، حيث أظهرت دراسة من كلية الطب بجامعة هارفارد أن المساعدة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، رغم أنها تحسن أداء البعض، إلا أنها قد تضر بمهارات التشخيص لدى آخرين لأسباب لا تزال غير مفهومة تماماً.
ويكمن الخطر الأكبر في أن الطلاب قد يحصلون على درجات أكاديمية أفضل بفضل مخرجات الذكاء الاصطناعي المتطورة، بينما يتراجع مستوى فهمهم واستيعابهم الحقيقي للمادة العلمية، مما يخلق فجوة بين "جودة المنتج النهائي" و"عمق التعلم".
من جانبها، تدافع الشركات المطورة مثل "أوبن إيه آي" " عن تقنياتها، حيث تؤكد جينا ديفاني، المسؤولة عن قطاع التعليم الدولي في الشركة، أن الهدف ليس استبدال التفكير البشري بل تعزيزه.
تدعو ديفاني إلى استخدام "شات جي بي تي " كمعلم خاص أو "مساعد ذكي" يساعد الطالب على تفكيك الأسئلة الصعبة وفهم مكوناتها في أوقات متأخرة من الليل حين لا يتوفر المعلم البشري، مشددة على ضرورة استخدامه بطريقة مستهدفة تسرع التعلم ولا تلغيه.
ومع ذلك، يصر الأكاديميون على ضرورة وعي الطلاب بآليات عمل هذه الخوارزميات وكيفية تعامل الشركات مع البيانات، مؤكدين أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد "نسخة متطورة من الآلة الحاسبة"، بل هو تقنية قادرة على إعادة تشكيل العقل البشري، مما يتطلب قرارات مدروسة وحذرة قبل دمجها بشكل كامل في المسارات التعليمية والمهنية.
