توفي أمس (الجمعة) عالم البيولوجيا الأمريكي جيمس واتسون، الحائز على جائزة نوبل، وأحد مكتشفي تركيب الحمض النووي، عن عمر يناهز 97 عامًا.. ومع وفاة العالم الكبير ذي الآراء التي ظلت مثيرة للجدل في الفترة الأخيرة من عمره، فتح الباب للعديد من التساؤلات التي تناولتها صحف كبيرة حول العالم، إضافة لنوادي العلوم.. واعتمد واتسون وشريكه كريك على صور الأشعة السينية التي التقطتها الباحثة روزاليند فرانكلين من كلية كينغز دون علمها، لبناء نموذجهما الفيزيائي للجزيء، ليبرز أحد أهم التساؤلات: هل سرق واتسون وكريك إنجاز العالمة روزاليند فرانكلين ليحصلا على جائزة نوبل؟ للقصة خلفيات وللاتهام حكاية نرويها..
في عالم العلوم، تختلط العبقرية بالجدل، والنجاحات الكبرى غالبا ما تخفي قصصا غير مرئية. اكتشاف بنية الحمض النووي في خمسينيات القرن الماضي لم يكن مجرد لحظة علمية، بل دراما مليئة بالمنافسة، والصدف، والتفوق الفردي. بين جيمس واتسون وفرانسيس كريك وروزاليند فرانكلين، تلتقي العبقرية بالخيارات الصعبة، حيث لعبت روزاليند فرانكلين، بعقلها الرياضي ودقتها الفائقة، الدور الحاسم الذي مهد الطريق لفهم سر الحياة على المستوى الجزيئي، رغم أن تاريخ النشر والنماذج العلمية لم يمنحها المكانة التي تستحقها في البداية.
في أبريل 1953، نشرت مجلة "Nature" ثلاثة مقالات مهمة عن بنية الحمض النووي، المادة التي تحمل الشفرة الوراثية لكل الكائنات الحية. المقالة الأولى كانت نظرية بحتة كتبها واتسون وكريك من جامعة كامبريدج، بينما المقالتان التاليتان كانتا غنيتين بالبيانات، كتبها فريق من جامعة كينغز كوليدج لندن، مقال بواسطة موريس ويلكينز وزملائه، ومقال آخر بواسطة روزاليند فرانكلين وطالب الدكتوراه راي غوسلينج.
نموذج كامبريدج لم يكتفِ بوصف الحمض النووي على أنه لولب مزدوج، بل قدم تفاصيل دقيقة تعتمد على قياسات الزوايا بين الروابط الكيميائية المختلفة، مدعومة بحسابات رياضية معقدة، وتفسيرا اعتمده كريك من دراسته لنيلوس الهيموغلوبين أثناء الدكتوراه. وهنا تبدأ الشائعات المتعلقة بسرقة البيانات، فمصدر هذه القياسات كان مفتاح النموذج، وفق تقرير نشرته صحيفة "الغارديان " البريطانية.
الشخصيات الأربع يمكن أن تكون جزءًا من رواية شيقة. واتسون كان شابا مغامرا وفضوليا، يسعى بشغف لكشف سر الحمض النووي، وكريك كان عبقريا ذا ذهن متنوع، بينما ويلكينز كان خجولا وهادئا. أما فرانكلين، خبيرة البلورات بالأشعة السينية، فقد انضمت إلى كينغز في أواخر 1950، وكان من المفترض أن تعمل مع ويلكينز، لكن مدير المجموعة، جون راندال، أراد أن تكون مستقلة.
منذ البداية، لم يكن هناك انسجام بين فرانكلين وويلكينز. كان ويلكينز هادئا ويتجنب الجدال، بينما كانت فرانكلين حازمة وتزدهر في النقاش الفكري، مما أثار توترا دائما. وفقا لصديقتها نورما ساذرلاند: "أسلوبها صريح أحيانا ويثير عداء بعض من تتحدث معهم، لكنها لم تكن تهتم لذلك".
في 1952، كانت المحاولة الأولى لواتسون وكريك لفهم الحمض النووي كارثية، إذ اقترحوا نموذجا ثلاثي الخيوط مقلوبا، ورفضته فرانكلين على الفور. وبعد اعتراضات من فريق كينغز على تدخل كامبريدج في عملهم، أوقف سير لورانس براغ، رئيس مختبرهما، عمل واتسون وكريك مؤقتا على الحمض النووي.
لكن في بداية 1953، عندما أبدى المنافس الأمريكي لينوس باولينغ اهتماما بالحمض النووي، أعاد براغ واتسون وكريك للعمل على المشكلة. في يناير 1953، زار واتسون مختبر كينغز، حيث أراه ويلكينز صورة الأشعة السينية الشهيرة “Photo 51”، التي كانت واضحة ودقيقة بشكل غير مسبوق. هذه الصورة، التي التقطها راي غوسلينج أثناء عمله مع فرانكلين، قدمت معلومات حيوية حول شكل اللولب المزدوج، لكنها لم تكشف كل التفاصيل الكيميائية الدقيقة للحمض النووي.
ما قدمته فرانكلين من بيانات في تقرير غير رسمي، نُقل لاحقًا إلى كامبريدج عبر ماكس بيرتز، كان أساسا لحسابات كريك الدقيقة. هذه البيانات لم تكن سرية، ولم يسرق واتسون وكريك شيئا، لكنهما لم يستأذنا فرانكلين قبل تفسير البيانات.
صدفة أن البيانات التي جمعتها فرانكلين كانت متوافقة تماما مع ما كان يدرسه كريك في هيموغلوبين الحصان، مما مكنه من إدراك أن الحمض النووي يتكون من سلسلتين مكملتين، وهو أمر أساسي لفهم طريقة النسخ. بينما كان واتسون وكريك يواصلان العمل في كامبريدج، كانت فرانكلين تُكمل مشروعها بمعزل، وقد أظهرت قدرات مذهلة في تفسير نتائج الرياضيات المعقدة باستخدام أدوات بسيطة مثل المسطرة والقلم، حتى اكتشفت في فبراير 1953 اللولب المزدوج وأن القواعد تتكامل بطريقة تمكّن الجزيء من النسخ.
على الرغم من هذا، لم تتمكن فرانكلين من تطوير نموذج كيميائي دقيق كما فعل واتسون وكريك، اللذان ترجما الاكتشاف إلى نموذج مكاني وجزيئي يمكن عرضه ونشره. في مارس 1953، تمت دعوة فرانكلين وويلكينز لمشاهدة نموذج كامبريدج، ووافقا على صحته، وتم نشره تحت اسم واتسون وكريك، بينما نُشرت بيانات فرانكلين بشكل منفصل. فرانكلين لم تحضر حفل النشر لأنها كانت قد انتقلت إلى مختبر بيركبيك وركزت على مشاريع أخرى.
أي أن البيانات التي جمعتها روزاليند فرانكلين لم تُسرق بالمعنى القانوني أو الرسمي، لكنها وصلت إلى واتسون وكريك عن طريق شخص ثالث (ماكس بيرتز) دون أن يطلبوا إذنها لاستخدامها. وهكذا، استخدموا معلوماتها لبناء نموذج الحمض النووي. الأمر أثار اتهامات بأنهم أخذوا عملها دون تقدير كامل لمساهمتها.
توفيت فرانكلين عام 1958 قبل أن تُمنح جائزة نوبل، ولم تعرف مدى الاعتماد على بياناتها في بناء النموذج، لكنها تُعد اليوم واحدة من أبرز النساء في تاريخ العلوم، حيث كانت مساهمتها حاسمة لفهم سر الحياة على مستوى جزيئي. مذكرات واتسون لاحقًا أظهرت تقديره لمساهمتها، حتى لو كان أسلوبه في الكتابة أحيانًا يقلل من شأنها.
قصة Photo 51 توضح كيف يمكن أن تظل المساهمات العلمية الكبرى مجهولة في وقتها، لكنها تؤكد أهمية فرانكلين في اكتشاف اللولب المزدوج للحمض النووي، معترفًا اليوم بدورها المركزي في هذا الاكتشاف التاريخي.

