فجوة الإدارة.. من الذي يقود فعلاً؟ ومن الذي يهرب خلف الاجتماعات؟

في المستشفيات، حيث تُصنع الحياة أو تنهار، نعتقد أن القيادة الصحية تمثل خط الدفاع الأول عن جودة الرعاية، وسلامة المرضى، واستقرار المؤسسة. لكن الحقيقة؟ في كثير من الحالات... لا أحد يقود.

نعم، يوجد مديرون، ومسميات لامعة، وخطط استراتيجية على الورق. لكن حين يحدث خطأ طبي، أو ينهار قسم، أو تغيب الكفاءة... لا نجد قيادة تتقدم الصفوف، بل نجد سيلاً من التبريرات، والتقارير، والاجتماعات التي تنتهي بلا قرار.

فجوة القيادة في المستشفيات لا تعني فقط غياب الأشخاص، بل غياب الجرأة. فعدد كبير من القيادات يتقن فن البقاء في المنطقة الآمنة: لا يُغضب أحداً، لا يصدم أحداً، لا يصدر قراراً حاسماً إلا بعد عشرة اجتماعات. والنتيجة؟ بيئة مهتزة، ثقافة خوف، وموظفون تائهون بين توجيه غير واضح، وتقييم غير عادل.

حين يتحوّل القائد إلى مدير بيروقراطي

في بيئة المستشفيات، لا يُقاس القائد بعدد الخطابات التي يلقيها، أو بعدد الاجتماعات التي يرأسها. بل يُقاس بلحظة واحدة: هل اتخذ القرار الصحيح في الوقت الصعب؟ كثير من «القيادات» لا تريد أن تتحمّل مسؤولية القرار، فتؤجله، أو ترفعه إلى ما فوق، أو تنقله إلى لجنة، لتضيع المبادرة، وتنهار الثقة.

والأسوأ أن هذه القيادات غالباً ما تكون سبباً مباشراً في خلق بيئة إدارية سامة، حيث يُكافأ من يُجامل، ويُقصى من يصارح. وهنا تبدأ «السرطانات التنظيمية» في النمو: المحسوبيات، التكتلات، والمظاهر الفارغة التي تُخفي فشلاً داخلياً مؤلماً.

هل نبحث عن قادة... أم عن مُرضين؟

القيادة الحقيقية في المستشفيات تحتاج إلى شخصية مختلفة تماماً: شخص يسمع، لكنه لا يساوم، يراجع، لكنه لا يتردد، يواجه، لكنه لا يجرّح. نحتاج إلى قادة قادرين على كسر التكرار، ومواجهة الفشل، وقول «كفى» حين تتحول الجودة إلى شعارات، والمرضى إلى أرقام.

كيف نصنع قائداً في مؤسسة طبية؟

الأمر يبدأ من القمة. القائد لا يُنتج في دورة تدريبية، بل يُصنع في ثقافة واضحة: محاسبة عادلة، صلاحيات حقيقية، ونظام مكافأة يشجّع على الجرأة، لا على المجاملة. لا يمكن أن نصنع قائداً في بيئة تكافئ الصمت، وتخشى الشفافية، وتخنق المبادرة.

في المقال القادم من هذه السلسلة، سنفتح واحداً من أكثر المواضيع حساسية: لماذا يفشل بعض الأطباء حين يصبحون مديرين؟ وهل الطب كافٍ ليؤهل صاحبه لقيادة مؤسسة كاملة؟.