نزيف الإدارة الصامت في المستشفيات

كيف تحول ما يُسمى لفظ «المجموعة» من داعم للرؤية إلى عبء وتعطيل للأداء؟

في ظاهرها تمتلك المستشفيات الحديثة كل ما يلزم للنجاح: بنية تحتية متطورة، أجهزة طبية حديثة، طواقم مؤهلة، وخطط استراتيجية مصقولة، لكن الحقيقة التي لا يجرؤ الكثيرون على قولها: بعض هذه المستشفيات تنهار من الداخل، لا بسبب نقص الإمكانات، بل بسبب تضخم إداري، يُثقل كاهلها حتى تختنق.

هذا المقال هو الجزء الثاني من سلسلة مقالات تكشف ما يدور خلف الكواليس في إدارة المستشفيات. واليوم نفتح ملفاً شائكاً: ما يُعرف بـ«المجموعة» أو «المكتب التنفيذي للمجموعة» – كيان إداري يُفترض أنه صُمم لدعم الرؤية والتوسع، لكنه في كثير من التجارب تحول إلى كيان يستنزف الميزانية، ويعطل القرار، ويقتل الكفاءة.

من مركز قيادة إلى مركز تكلفة

في الفكرة، «المجموعة» هي الجهة، التي يفترض بها أن توحد التوجه، ترفع كفاءة الموارد، وتمنح الدعم للإدارات التشغيلية، لكن ما نراه على أرض الواقع يختلف كثيراً. مناصب تُستحدث بلا دور واضح، هياكل تنظيمية تُبنى فقط لتبرير وجود السلطة، موظفون يشغلون مسميات عليا لا ترتبط بأي مخرجات فعلية.. والنتيجة؟ تضاعف التكلفة، تعقيد القرار، وانفصال تام عن أرض الواقع.

وظائف عليا بلا وظيفة حقيقية

المثير للدهشة – والمقلق في آن – أن كثيراً من هذه المناصب لا تُقاس نتائجها ولا تُسأل عن أثرها، بل الأسوأ، أنها غالباً ما تتدخّل في التشغيل دون معرفة دقيقة بالسياق، فتُبطئ القرار، وتزيد التوتر بين الإدارات، وتخلق فجوة بين من يعمل ومن يقرّر.

وفي الوقت الذي يُطالب فيه الأطباء والممرضون بالضغط والتقشف تُصرف الملايين على اجتماعات، تنسيقات، وتقارير لا يُنفذ منها شيء، إلا ما يُرضي الشكل الإداري.

نزيف صامت... لكنه قاتل

هذا الشكل من الهدر المالي لا يظهر في القوائم بشكل مباشر، لكنه ينعكس على كل شيء: سرعة اتخاذ القرار، جودة الرعاية، استقرار الطواقم، وحتى ثقة المرضى، بل قد يتحول المكتب التنفيذي إلى «مكتب تعقيد»، حيث تُدفن الأفكار الجريئة، وتُخفَت أصوات العاملين الحقيقيين.

هل الحل في إلغائها؟ لا. بل في ضبطها.

الفكرة في حد ذاتها ليست خطأ، لكن غياب الحوكمة، وغياب مساءلة النتائج، يجعل من هذه «المجموعات» عبئاً إدارياً لا يليق بمؤسسات يفترض بها أن تُنقذ الأرواح. الحل يبدأ من طرح السؤال الصعب: كم وظيفة في هذه المكاتب تضيف قيمة حقيقية؟ وكم منها مجرد عنوان بلا مضمون؟

لا يمكن إنقاذ المستشفيات من الخارج فقط، بل يجب تنظيف الداخل أولاً، والمجموعة يجب أن تتحوّل من كيان نظري إلى عقل تشغيلي حقيقي، أو... أن تختفي.

في المقال المقبل من هذه السلسلة سنناقش فجوة القيادة داخل المستشفيات: لماذا يغيب القرار الجريء؟ ومن يصنع ثقافة الانضباط والوضوح... أو يُدمّرها؟