خريطة طريق لريادة الإمارات في الصحة 2035 «15/4»

التمويل الصحي المستدام – من حجم الإنفاق إلى قيمة الرعاية

من الإنفاق إلى الاستثمار

في عالم تتصاعد فيه كلفة الرعاية الطبية عاماً بعد عام، لم يعد السؤال كم ننفق، بل كيف ننفق؟

التمويل الصحي المستدام لم يعد مجرد بند في الميزانية، بل صار استثماراً وطنياً في رأس المال البشري، حيث تقاس فاعلية كل درهم بمدى تحسينه لجودة حياة الإنسان.

ومع رؤيتها الطموحة نحو الريادة الصحية بحلول عام 2035 تتبنى الإمارات نهجاً جديداً يقوم على القيمة قبل الكمية، وعلى جعل الصحة قطاعاً إنتاجياً يسهم في التنمية لا عبئاً على الاقتصاد.

ملامح النمو الصحي في الإمارات

تعد الإمارات من أكثر دول المنطقة إنفاقاً على الصحة كنسبة من الناتج المحلي، حيث بلغ الإنفاق الصحي نحو 5 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، ومن المتوقع أن يصل إلى 5.8% بحلول 2029، أي ما يعادل 151 مليار درهم، وفقاً لتقديرات «ألبن كابيتال».

هذه الأرقام تعكس تطوراً ملحوظاً في الخدمات والبنية التحتية الصحية، لكنها تفرض في المقابل ضرورة بناء آليات تمويل ذكية، تضمن استدامة هذا النمو على المدى الطويل، فالهدف ليس خفض الإنفاق بل زيادة كفاءته، بحيث يتحول كل درهم ينفق إلى قيمة مضافة لصحة المواطن والمقيم.

من الكم إلى القيمة.. نموذج «إجادة» في دبي

أطلقت هيئة الصحة بدبي في عام 2022 مبادرة «إجادة» نظام تمويل يعتمد على الرعاية الصحية القائمة على القيمة.

لا تُقاس كفاءة المستشفى بعدد العمليات أو الفحوص بل بنتائج المرضى وجودة التجربة العلاجية.

حقق هذا التحول نتائج ملموسة:

• خفض كلفة علاج الأمراض المزمنة مثل السكري بنسبة 25 إلى 30 % بعد استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالحالات عالية الخطورة.

• تدريب أكثر من 2000 من الكوادر الطبية وشركات التأمين على نظام القيمة مقابل النتائج.

• تطوير أكثر من 50 % من الأدلة الإرشادية السريرية للأمراض المزمنة ضمن البرنامج.

هذه الخطوات جعلت دبي أول مدينة في المنطقة تطبق نموذجاً تمويلياً، يقيس النجاح بمدى تحسن صحة المريض لا بعدد الإجراءات.

دروس عالمية في كفاءة التمويل

سنغافورة تعد من أكثر الأنظمة كفاءة عالمياً؛ إذ تنفق نحو 5 % فقط من ناتجها المحلي على الصحة، ومع ذلك تحقق متوسط عمر متوقع يفوق 83 عاماً. تعتمد نظام «3M»، الذي يجمع بين تمويل حكومي وادخار شخصي وتأمين جماعي، فيحقق توازناً مالياً فريداً.

أما الولايات المتحدة، التي تنفق حوالي 18 % من ناتجها المحلي على الصحة، فلا يزال متوسط العمر فيها دون 78 عاماً، ما يعكس ضعف الكفاءة في توزيع الموارد.

وفي الدنمارك، حيث يبلغ الإنفاق الصحي نحو 10.8 % من الناتج المحلي، يضمن النظام الممول من الضرائب رعاية شاملة ومتساوية مع متوسط عمر متوقع يقارب 81 عاماً، بفضل تركيزه على الوقاية وجودة الخدمة لا حجمها.
الدرس هنا واضح: القيمة أهم من الكلفة، والاستدامة تتحقق حين يكون التمويل موجهاً بدقة نحو النتائج، التي تعزز صحة المجتمع.

التكنولوجيا والتمويل الذكي

التكنولوجيا أصبحت العمود الفقري للاستدامة الصحية

تشير أحدث الإحصاءات إلى أن سوق الصحة الرقمية في الإمارات بلغ نحو 620 مليون دولار في 2024، ومن المتوقع أن يتجاوز 1.8 مليار دولار بحلول 2030 بمعدل نمو يفوق 20 % سنوياً.

الذكاء الاصطناعي اليوم يستخدم للتنبؤ بالأمراض المزمنة وتوجيه الموارد نحو الوقاية بدل العلاج، كما تسهم السجلات الصحية الموحدة والأنظمة الرقمية في تقليل الازدواجية والهدر بنسبة تتجاوز 15 % في بعض المنشآت.

هذه الحلول التقنية لا ترفع جودة الخدمات فحسب، بل تخفض التكاليف التشغيلية وتزيد كفاءة كل درهم يستثمر في القطاع الصحي.

نحو 2035: الصحة استثمار وطني

التمويل الصحي المستدام في الإمارات لم يعد هدفاً نظرياً بل تحولاً استراتيجياً يقوده التخطيط الحكومي والشراكة الفاعلة بين القطاعين العام والخاص.

اليوم، أكثر من نصف الإنفاق الصحي ينفذ بالشراكة مع القطاع الخاص، ما يعزز القدرة على الابتكار وتنويع مصادر التمويل، كما تواصل الدولة الاستثمار في الوقاية والتوعية، إذ تؤكد الدراسات أن كل درهم يستثمر في الوقاية يجنب النظام الصحي من 3 إلى 5 دراهم في العلاج اللاحق.

الطريق إلى التحول الرقمي الصحي

من الرعاية الأولية إلى التمويل المستدام تتشكل ملامح المنظومة الصحية الإماراتية الجديدة القائمة على القيمة، الابتكار، والاستدامة، فالتمويل الذكي ليس حسابات مالية فحسب، بل فلسفة تضع الإنسان في قلب القرار، وتحوّل الصحة إلى محرك للتنمية الوطنية.

وفي المقال القادم من السلسلة سنكمل الرحلة إلى المستقبل عبر محور جديد:

التحول الرقمي في القطاع الصحي، وكيف سيجعل السجلات الموحدة والذكاء الاصطناعي الإمارات في طليعة الدول التي تبني نظاماً صحياً متصلاً وذكياً بحلول 2035.