خريطة طريق لريادة الإمارات في الصحة 2035 - (2/15)

الصحة النفسية كأولوية وطنية

صحة الجسد لا تكفي

الجسد يمنح الإنسان القدرة على الحركة والعمل، لكن النفس هي التي تمنحه المعنى والدافع للاستمرار. وفي زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، أصبحت الصحة النفسية من أهم تحديات القرن الواحد والعشرين.

العالم اليوم يواجه موجة من القلق والاكتئاب والتوتر المزمن، تحولت إلى ما يشبه الأوبئة الصامتة التي لا تُرى بالعين، لكنها تُنهك الأفراد وتؤثر في المجتمعات والاقتصادات معاً.

وفي الإمارات، تدرك القيادة الرشيدة أن الريادة الصحية التي نطمح إليها بحلول عام 2035، لا يمكن أن تتحقق إلا ببناء منظومة متوازنة، تمنح الصحة النفسية نفس المكانة التي تحظى بها الصحة الجسدية.

لماذا الصحة النفسية الآن؟

في تقارير منظمة الصحة العالمية، هناك شخص من كل ثمانية أشخاص حول العالم يعاني من اضطراب نفسي بدرجات متفاوتة.

في الولايات المتحدة، تشير التقديرات إلى أن القلق والاكتئاب يكلّفان الاقتصاد العالمي أكثر من تريليون دولار سنوياً، بسبب انخفاض الإنتاجية.

أما اليابان، فبعد ارتفاع معدلات الانتحار في العقد الماضي، أطلقت الحكومة حملة «مجتمع بلا عزلة»، التي غيّرت المفهوم العام للصحة النفسية، ودمجت الدعم النفسي في المدارس وأماكن العمل، فبدأت النتائج تظهر على مستوى الاستقرار المجتمعي والثقة بالنفس.

هذه الأرقام لا تصف مشكلة طبية فحسب، بل تصف عبئاً إنسانياً واقتصادياً، إذ لا يمكن لأي دولة أن تحقق تنمية أو ازدهاراً، إذا كان أبناؤها يعانون في صمت.

وفي عالمنا العربي، بدأت المؤشرات النفسية، خاصة بين الشباب، تعكس الحاجة إلى تحرك جاد، يجعل من الصحة النفسية أولوية وطنية، واستثماراً في الإنسان نفسه.

دروس من التجارب العالمية

سنغافورة: طوّرت نظام دعم مجتمعي متكامل، يربط بين المراكز النفسية والرعاية الأولية، بحيث يمكن التدخل مبكراً قبل أن تتفاقم الحالات. النتيجة كانت انخفاض الضغط على المستشفيات، وتحسن واضح في جودة الحياة.

اليابان: تعاملت مع الصحة النفسية كقضية ثقافية ومجتمعية، قبل أن تكون طبية. دمجت برامج التوعية في التعليم والعمل، ونجحت في خفض معدلات الانتحار بصورة ملموسة خلال السنوات الأخيرة.

الولايات المتحدة: بعد جائحة كورونا، توسعت برامج العلاج النفسي عبر الإنترنت، فكسرت الحواجز الاجتماعية، ووفرت للناس سهولة الوصول إلى المساعدة دون خوف من الوصمة.

الإمارات: من الدعم الفردي إلى المنظومة المتكاملة

اتخذت الإمارات خطوات ملموسة خلال السنوات الأخيرة:

إطلاق حملات وطنية للتوعية بالصحة النفسية، وكسر الحواجز الاجتماعية.

إدراج خدمات الدعم النفسي في المدارس والجامعات، لضمان الاكتشاف المبكر.

تطوير منصات رقمية توفر استشارات متخصصة وسرية، ضمن نظام الرعاية المتكاملة.

لكن طريق الريادة العالمية يحتاج إلى استكمال الصورة عبر:

دمج الصحة النفسية في الرعاية الأولية، بحيث يكون طبيب الأسرة جزءاً من منظومة الكشف والدعم.

تأهيل الكوادر الوطنية في مجالات الطب النفسي والإكلينيكي لتوطين التخصصات الحساسة.

تحديث التشريعات لضمان السرية وحماية حقوق المرضى النفسيين.

تعاون شامل بين المدارس، والجامعات، وأماكن العمل، والإعلام، لترسيخ ثقافة الوعي النفسي.

هذه الخطوات كفيلة بأن تنقل التعامل مع الصحة النفسية من ردّ الفعل إلى الاستباق والتمكين.

نحو 2035: الصحة النفسية كمعيار للريادة

الريادة الصحية لا تُقاس فقط بعدد المستشفيات أو التقنيات الحديثة، بل بمدى تماسك الإنسان داخلياً، وقدرته على مواجهة ضغوط الحياة بإيجابية وثقة.

لذلك، فإن جعل الصحة النفسية جزءاً من مؤشرات الأداء الوطني، كجودة الحياة والسعادة المجتمعية، سيشكل مقياساً حقيقياً لتطور الدولة نحو رؤيتها لعام 2035.

المحطة القادمة

بهذا المقال، نواصل رحلتنا في سلسلة «خريطة طريق لريادة الإمارات في الصحة 2035». فبعد أن تناولنا في المقال الأول دور الرعاية الأولية والوقاية في بناء النظام الصحي المستدام، نسلّط الضوء اليوم على العقل والنفس، كقوة وطنية خفية، تحتاج إلى رعاية بقدر رعاية الجسد. وفي الأسبوع القادم، سننتقل إلى المحور الثالث من السلسلة: الجاهزية الوطنية للأوبئة والطوارئ الصحية، لنتحدث عن كيف يمكن لدولة بحجم طموح الإمارات، أن تبني منظومة مرنة، قادرة على الصمود أمام التحديات والأزمات الصحية الكبرى.