القرار الطبي يفترض أن يكون بيد الأطباء أصحاب الخبرة، ممن درسوا وتدرّبوا لسنوات طويلة في أكبر المستشفيات العالمية، لكن الواقع المؤسف أن هذه القرارات المصيرية تُراجع اليوم في بعض مكاتب شركات التأمين، وأحياناً تُرفض أو تُؤجل بقرار صادر عن موظف قد لا يكون طبيباً أصلاً، أو من مختصين لا علاقة لهم بالعلاج، مثل إخصائيي العلاج الطبيعي أو صيادلة إداريين.
هذه ليست فقط مفارقة صادمة، بل إهانة صريحة للطب، وتلاعب مباشر بمصير المريض.
مفارقة تثير الغضب
كيف يمكن أن تُلغى خطة علاج وضعها أستاذ استشاري بخبرة دولية، لمجرد أن موظف تأمين يرى أن «العلاج غير مبرر»، أو أن «التكلفة مرتفعة»؟
كيف يُقبل أن يقرر غير المختص مصير عملية جراحية أو دواء منقذ للحياة، بينما الطبيب المعالج يستند إلى أدلة علمية وفحوص موثقة؟
إنها معادلة غير منطقية تجعل العلم بلا قيمة، والخبرة بلا وزن، والمريض بلا حماية.
أمثلة تكشف العبث
• مريض إصابة معقدة في الركبة، قرر الاستشاري ضرورة التدخل الجراحي العاجل، ومع ذلك رُفض الطلب مراراً بذريعة أسئلة شكلية، مثل: ما سبب الإصابة؟ هل جُرّب العلاج الطبيعي؟ رغم أن الطبيب أكد أن العلاج الطبيعي مضاد للاستطباب. النتيجة: أيام ضائعة ومعاناة بلا مبرر.
• مريض سرطان احتاج إلى جلسات علاج إشعاعي، لكن النقاش لم يكن حول ضرورة العلاج، بل حول تفاصيل الفاتورة وتكلفة المستهلكات الطبية، وكأن حياة المريض مجرد بند تفاوض مالي.
• مريض آخر احتاج لجراحة في الغدة الدرقية، فتوالت طلبات التأمين لمستندات وتقارير قديمة من مستشفيات أخرى، ما تسبب في تأجيل العملية لأسابيع وهو يصارع المرض.
حين تسقط العراقيل بالواسطة
الأخطر أن هذه العراقيل تختفي تماماً إذا وُجدت واسطة أو معرفة داخل شركة التأمين، حينها تتحول الموافقات إلى إجراء سريع بلا تعقيدات، بينما غيرهم يظلون أسرى أسئلة بيروقراطية لا تنتهي.. هذه الازدواجية تفضح أن ما يحكم المنظومة ليس الطب ولا المعايير، بل العلاقات والمصالح.
أثر مدمر على الثقة
هذه الممارسات تستنزف المريض صحياً ونفسياً، وتضعف مكانة الأطباء أمام مرضاهم، وتقيّد المستشفيات عن أداء دورها، الأخطر أنها تهدم الثقة في النظام الصحي كله، فما فائدة استقدام أفضل الأطباء وتجهيز أحدث المرافق إذا كان القرار النهائي بيد غير المختصين في مكاتب التأمين؟
المطلوب عاجلاً
1. إعادة القرار الطبي إلى أصحابه: لا يحق لغير الأطباء المتخصصين تعطيل أو رفض علاج موثق.
2. لجان خبراء مستقلة: أي خلاف يُعرض على لجان طبية محايدة، لا على إدارات مالية.
3. كشف المؤهلات: يجب أن تعلن شركات التأمين مؤهلات من يراجع طلبات العلاج.
4. مساءلة صارمة: تعطيل أو رفض بلا مبرر طبي يجب أن يُحاسب كخطر على سلامة المريض.
5. آلية شكاوى فورية: لحماية المريض والطبيب من قرارات مجحفة.
كلمة أخيرة
لم يعد السؤال من يتخذ القرار، بل إلى متى نقبل أن تُدار حياة المريض بمنطق الحسابات لا بمنطق الطب.
فإما أن يُعاد القرار الطبي إلى يد الخبراء الحقيقيين، أو سنبقى نرى مريضاً ينهش المرض جسده، بينما يقرر غير المختص مصيره من خلف مكتب.