هل تنزف المستشفيات حين يديرها الأطباء؟

في عالم المستشفيات، الطبيب هو البطل الأول. نثق به حين نمرض، نحترمه حين يُشخص، ونصفق له حين ينقذ حياة. لكن ماذا يحدث حين يتحول هذا البطل من غرفة العمليات إلى ممرات الإدارة؟ في كثير من الحالات: تبدأ المؤسسة بالنزيف... بهدوء، وبلا وعي.

الطبيب ليس دائماً القائد المناسب

الطب مهنة إنسانية دقيقة، أما الإدارة فلعبة معقدة لا ترحم. الطبيب اعتاد العمل وفق بروتوكولات طبية، واتخاذ قرارات فردية، والنجاح بناءً على مهارته.

أما الإدارة، فهي لعبة فرق، ومعادلات مالية، وصراعات بشرية تحتاج عقلية مختلفة تماماً.

وحين يُكلف الطبيب بإدارة مستشفى دون إعداد حقيقي، تبدأ الفوضى الصامتة:

قرارات متأخرة، صراعات خفية بين الأقسام، غياب الرؤية، وميزانيات تُهدر لأن «القائد» لا يجيد لغة الأرقام، ولا يفهم ديناميكية التشغيل.

من الخطأ أن نكافئ التميز الطبي بمنصب إداري

هذا هو الفخ الذي تقع فيه كثير من المستشفيات: الطبيب المتميز يُكافأ بمنصب إداري، دون أن يُسأل إن كان يريده أو يمتلك أدواته.

وهكذا نخسر طبيباً ناجحاً... ونكتسب مديراً متردداً.

الأدهى أن سلطة الطبيب تمنحه «حصانة» داخل المنظومة. لا أحد يراجعه، ولا أحد ينتقده.

والنتيجة؟ إدارة فردية، معزولة، لا تُبنى على أرقام أو مؤشرات، بل على انطباعات ومواقف شخصية.

المستشفى ليس غرفة طوارئ... ولا عيادة خاصة، بعض الأطباء يديرون المؤسسة وكأنها امتداد لعيادتهم.

يهتمون بالتفاصيل الفنية، لكنهم يغفلون التخطيط، وإدارة الموارد البشرية، وبناء الثقافة المؤسسية وفرق القيادة.

وعند الأزمات – يتراجعون، أو يبحثون عن «مدير فعلي» يتخذ القرار نيابة عنهم.

ليس كل طبيب قائداً... لكن كل قائد يجب أن يفهم روح الطب.

نحن لا ننتقد الأطباء هنا. بل ننتقد ثقافة تضعهم في مواقع قيادية دون تأهيل حقيقي.

رأينا أطباء عظماء يقودون مؤسسات ناجحة. لكنهم لم ينجحوا لأنهم أطباء... بل لأنهم تعلموا كيف يفكر القائد، وكيف يدير مؤسسة، لا مريضاً.

وفي بعض الأحيان، تظهر استثناءات تُثبت أن الطبيب يمكن أن يكون قائداً حقيقياً إذا امتلك الرؤية وتسلح بالعلم الإداري.

مثل الدكتور فهد بوصليب، مدير مستشفى راشد في دبي، الذي نجح في الدمج بين الطب والإدارة، وقاد المستشفى بثبات نحو التميز.

وكذلك الدكتورة منى تهلك، المدير التنفيذي لمستشفى لطيفة، التي استطاعت بإدارتها الحكيمة أن تُحدث تحولاً ملحوظاً في أداء المستشفى وخدماته.

لكن هذه النماذج المضيئة تؤكد القاعدة ولا تنفيها: النجاح الإداري لا يُمنح بالشهادات الطبية، بل يُكتسب بالتأهيل، والتجربة، والفكر القيادي الحقيقي.

في المقال المقبل من هذه السلسلة، سنتناول الزاوية المقابلة تماماً:

لماذا تحتاج المستشفيات إلى قادة من خارج القطاع الصحي؟