لا تسقط الحضارات فجأة، ولا تولد من فراغ؛ ما يحدث غالباً هو خطأ في طريقة قراءتها حين يُنزَع عنها سياقها المكاني ويُعاد تعريفها بوصفها اسماً معاصراً لا تجربة إنسانية ممتدة.
ومن هذا الخلل في القراءة، تختزل الحضارة في تسمية حديثة، ويُختصر التاريخ في عمر الدولة القائمة وكأن الأرض بلا ذاكرة، فتتشكل تصورات متسرعة لا تحكمها قراءة واعية بقدر ما تمليها رؤية ضيقة، أو ميل للتقليل، أو استفزاز تحركه الغيرة أكثر مما يحكمه الفهم.
والحقيقة أن الحضارة لا تسكن الاسم بل المكان، ولا تُختزل في التسمية بل في الإنسان الذي عاش على الأرض وبنى وترك أثره.
فكم من أرضٍ تغير اسمها عبر القرون وبقيت حاضرة في التاريخ بما أنجزه أهلها لا بما حملته من مسميات، لأن التاريخ لا يحفظ العناوين بقدر ما يحفظ الأفعال.
وإن تنحينا عن سؤال الماضي قليلاً، فإن الحاضر وحده كفيل بأن يعيد تعريف الحضارة: فحين تنجح كيانات حديثة العهد سياسياً في بناء نموذج مدني معاصر، يقوم على العلم والتنظيم واحترام الإنسان وصناعة الأمل، تُقاس الحضارة بما تُضيفه للحياة والإنسان، لا بطول الزمن ولا بعمر الدولة.
ولعل ما يميز النموذج الحضاري الحديث أنه لم يُبنَ على الانغلاق أو التعالي، بل على الانفتاح والاحتواء.
لم تُغلق أبوابه أمام من أراد المشاركة أو التعلّم أو حتى استلهام التجربة، فالرؤية التي تقوده لا ترى النجاح حكراً، ولا تعد التقدم لعبة إقصائية، بل تؤمن بأن اتساع القمة لا يضيق بمن يصعد، وأن تقدّم المنطقة بأكملها في مجموعه عائد بالنفع على الجميع.
ومن زاوية أعمق، لا يمكن فهم مسارات النهوض والتراجع خارج سنن التاريخ العامة؛ فالتجارب التي نجحت لم تفعل ذلك لأنها امتلكت الموارد وحدها، كما أن التجارب التي تعثّرت لم تسقط لأن غيرها تقدّم، بل لأن اختياراتها قادتها إلى ذلك المسار.
وقد لخّص ابن خلدون هذه الحقيقة بعبارته: «الظلم مؤذن بخراب العمران» في إشارة واضحة إلى أن السقوط يبدأ من الداخل قبل أن يتجسد في الواقع، حين يُزاح البناء لصالح الصراع، وتُغلَّب الفكرة أو يُنحاز للفئة.
وختاماً، من يستطيع أن يبني ملامح حضارة في عقود قليلة، لا يفعل ذلك من فراغ، بل يستأنف مساراً حضارياً راسخاً في المكان ومتجذراً في الإنسان. فالحضارة ليست ماضياً نتغنى به، ولا أطلالاً نبكيها، بل حاضر نُتقنه ومستقبل نتحمل مسؤوليته.