في أول زيارة لي إلى اسكتلندا، سألت سائق أجرة، كان لطيفاً واستطرد معي في حديث باسم: هل أنت بريطاني؟ فأجاب بصوت رخيم: لا! صُدمتُ من إجابته، رمقني بنظرة مبهمة من مرآة السائق، ثم استدرك بنبرة ملؤها الاعتزاز:
بل أنا اسكتلندي! ويبدو أن اعتزازه أنساه حقيقة أن بلاده هي الضلع الثالث للمملكة المتحدة. كان في الواقع يلمح إلى أنهم كأمة تختلف عن سائر الأمم.
هذا الموقف ذكرني بمعضلة حقيقية نقع فيها جميعاً في حواراتنا. إذ يُروى أن رجلاً سمع آخر يقول: إن الرجل الاسكتلندي لا يضع السكر في حساء الشعير، فيرد عليه السامع باستنكار ممزوج بامتعاض: أنا اسكتلندي لكنني أضع السكر فيه! فيرد المتحدث بنبرة انفعالية: لا يوجد اسكتلندي حقيقي يفعل ذلك. يسمى ذلك «مغالطة الرجل الاسكتلندي».
ويبدو أنها موجودة في حوارات عديدة حول العالم. فقد يقول قائل: إن العربي «نزيه» ولديه «مروءة» فطرية، فيرد عليه آخر قائلاً: إن معظم من سرقوا خيراتنا هم من العرب الأقحاح!
وكذلك من وشى بي في العمل كان عربياً صرفاً! هذا ما يسمى «بمغالطة الرجل الاسكتلندي»: كأن يقول أحدهم: إن اليونانيين لا يتركون زوجاتهم يعملن خارج المنزل، فيرد عليه السامع:
هناك آلاف اليونانيات اللاتي يعملن في وظائف خارج المنزل، فيرد الأول: أولئك ليسوا يونانيين حقيقيين! ما جرى أن المتحدث حور تعريف اليوناني من معناه الأصلي الذي لا يختلف عليه اثنان، إلى تعريف «أيديولوجي» عبر استثناءات في تعريفه، ليلوي أعناق الحقائق نحو وجهة نظره، وكأنها حقيقة مسلم بها. وقد فصل ذلك مؤلف كتاب «رجل القش» الصادر عن دار شفق.
هذا النوع من المغالطات الحوارية fallacy يجنح بالمتحدث نحو التعميم ليكسب بها الجولة. ليس من العقلانية أو المنطق في شيء لكنه أسلوب «خلط الحابل بالنابل» كما تقول العرب. في حواراتنا إشارات (أو ألفاظ) ملغومة، تحذر العاقل من الاستمرار في متاهة التعميم.
ولذلك ما أن يدرك أحدنا تلك الورطة حتى يلوذ بالصمت مثلما فعلت مع سائق الأجرة الذي لم أستطرد معه لأن النهاية معروفة: حتى لا أكون ضحية جديدة للرجل الاسكتلندي!
ومن مؤشرات الدخول في نقاشات عقيمة، محاولات البعض اللجوء إلى تصرفات كان يفعلها في صباه، مثل «تحريك المرمى» كلما اقترب خصمه من تسجيل نقطة أو هدف محتمل في أرض الملعب. «تحريك المرمى» هي تعبير مجازي عن محاولات اليائس في إعادة صياغة شروط القبول أثناء النقاش، ليس بحثاً عن الحقيقة، بل هروب من الإقرار بها. هي تصرفات لا إرادية أو مقصودة لتحويل مسار النقاش العقلاني إلى عبثي ومستنزف.
كثير من الحوارات لا تُخسر بالحجج، بل تُخسر بالاستمرار فيها. فهناك من يجادلك من أجل المجادلة فيقول: «أرني دليلاً علمياً واحداً»، نقدم الدليل فيقول مجدداً: «ليس من مجلة محكمة»، ثم ليس من جامعة مرموقة، وهكذا حتى ينتهي النقاش إلى جدال عقيم يتحرك فيه الهدف بطريقة مزعجة.
من مثالب هذه الحوارات، أنها تُشعر صاحبها «بانتصار وهمي» يغذيه جهله المركب، فيغادر النقاش مطمئناً إلى صواب رأيه. ولذلك فإن من ينسحب فجأة من الحوار هو الأجدر بالانتباه، إذ يدرك العقلاء مبكراً عبث الاستمرار في حوار عقيم. ولحسن الحظ، ليست العيوب دوماً صاخبة، فبعضها يقال صراحة، وبعضها يُهمس، وبعضها الآخر يُفهم من ردود الأفعال الانسحابية أو الصامتة.