في رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، تحضر اللغة واللهجة والموروث الشعبي والهوية باعتبارها جزءاً رئيسياً من بناء الإنسان، وهذه الرؤية تضع أمامنا مسؤولية واضحة: أن نكون شركاء حقيقيين في هذا المشروع الثقافي، فالمسألة ليست خوفاً على لغة ولهجة ومفردة شعبية فحسب، بل خوف على ذاكرة، وعلى طريقة تفكير، وعلى علاقة الإنسان بجذوره.
ويأتي اليوم العالمي للغة العربية سنوياً في الثامن عشر من ديسمبر، فيما تتقدم «تكنولوجيا الحياة» بخطى متسارعة، ويظهر ما يظهر من تبدل أنماط العيش والتواصل، وقد أصبح محزناً جداً أن تجلس جلسات عائلية إماراتية، في هذا الشتاء الجميل، وتجد أن معظم الأحاديث تدور بلغة غير اللغة العربية! وبغير اللهجة الإماراتية! ألا يدعونا ذلك إلى لحظة تأمل تاريخية؟ نتساءل فيها عن لغتنا العربية الأم ولهجاتنا الشعبية وتراثنا وموروثنا العريق، وأين سيذهب قريباً؟!
كيف يمكننا من هذا المسار، الذي يجب أن نعرف فيه أنه مسار «منحرف»، أن نعود إلى لغتنا ولهجاتنا التي سكنت البيوت، ورافقت الطفولة، وحفظت أصوات النداء الأولى، وهمس المساء، وبدايات الحكايات؟ كيف نعود إلى الإحساس القديم بالانتماء إلى كلمات شكلت وعينا الأول، ومشت معنا ونحن نكتشف العالم، كلمة بعد أخرى، وننقلها إلى الأجيال الحالية، والأجيال اللاحقة؟
لا أريد أن أتحدث مطولاً عمّا تعرفونه.. اللغة العربية التي حملت في مفرداتها أثر البيوت الأولى، وأصوات المجالس، ونبرات الأمهات، وحكايات الجدات في المساء. وكيف كانت الكلمات تحتفظ بإيقاع الحياة كما عُرفت في حقيقتها، وكيف كانت تخزن تفاصيل العيش البسيط، وتوثق علاقة الإنسان بمكانه وزمانه ووطنه ومجتمعه وتراثه، كان لكل كلمة ظل، ولكل تعبير حكاية، وكأن اللغة كانت تحفظ غيباً ما يعيشه الناس، وتقدمه في نبرة، أو مفردة، أو صورة لغوية بقيت في الذاكرة طويلاً، ولكنها بدأت، للأسف الشديد، تتلاشى تدريجياً.
عاشت اللغة في الموروث الشعبي قريبة جداً من الإنسان، إلى حد أنها كانت جزءاً من يومه من دون تفكير، كانت تخرج في الكلام العابر، في المثل الذي يُقال بلا شرح، وفي الأغنية التي ترافق العمل من غير قصد، وفي العبارات البسيطة التي تُقال في المجالس فتستقر في الذاكرة.
كنا نباهي الناس كلها أننا في الإمارات، نحافظ على اللغة واللهجة الإماراتية ونعتبرها امتداداً مباشراً للمكان والناس، فكانت هوية تُمارَس من غير وعي، جزءاً من المشهد اليومي في البيوت والمجالس والأسواق. وحين كانت تُقال الكلمة الإماراتية في مجلس عائلي، كان الشعور بالانتماء يكتمل، وكان المكان يبدو أكثر دفئاً، وأكثر انسجاماً، وكأن اللغة هي التي تحفظ للمشهد روحه.
حين تنفصل اللغة عن الاستعمال اليومي الطبيعي، تفقد شيئاً من روحها. فهي ليست مجرد مخزون معرفي فحسب، بل ممارسة يومية تتشكل في الحديث، وفي المزاح، وفي الغضب، وفي المواساة وفي جميع العادات والتقاليد ومظاهر الموروث الشعبي، وحين تتراجع هذه الممارسة، تتراجع اللغة في الذاكرة، ويتراجع معها الموروث الشعبي الذي كان يعيش في العبارات البسيطة، وفي الأمثال، وفي التسميات المحلية للأشياء. هذا التراجع كان يتسلل بهدوء، لكنه الآن يسرع الخطى، وصرنا نصحو ونكتشف أن كلمات كثيرة لم تعد تُقال، وأن معاني كثيرة لم تعد مفهومة، وأن جزءاً من ذاكرتنا الجماعية بدأ يبهت وقد يتلاشى ويندثر.
لا شك أن التحول الرقمي فتح أبواباً واسعة للتواصل والتقدم العلمي والمعرفي، لكنه في الوقت نفسه أعاد تشكيل لغة الحياة اليومية. المنصات، والتطبيقات، والمحتوى السريع، صارت تصنع قاموسها الخاص، وتفرض إيقاعها، وتؤثر في طريقة التفكير والكلام. هنا يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: هل نترك لغتنا واللهجة والموروث الشعبي يتراجعون إلى الهامش، أم نملك الشجاعة لنُدخلهم بوعي إلى هذا الفضاء الجديد؟
في اليوم العالمي للغة العربية، في السنوات الأخيرة، والسنوات اللاحقة، لا أعتقد أن المقام للاحتفال وتسطير القصائد حول اللغة وجمالها وكتابة المقالات والمجاملات، الأهم أن نسأل أنفسنا بصدق: أي لغة نستخدم في بيوتنا؟ أي لهجة نمررها لأطفالنا؟ وأي موروث نتركه حياً في الكلام اليومي؟ هذه الأسئلة قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية، لأننا قد نفتقدها غداً من دون أن نشعر.
اللغة العربية مسؤولية حاضرة. فهي ذاكرة تحتاج إلى من يحميها بالوعي، وبالاختيار، وبالجرأة على التغيير حين يلزم، والعودة حين يجب. ومن دون هذه الجرأة، قد نستيقظ في يوم قريب، ونكتشف أن ما ضاع لم يكن كلمات، بل هو جزء من أنفسنا.