في 4 ديسمبر، أطلق الرئيس الأمريكي استراتيجية الأمن القومي، وهي الوثيقة التي يكتبها البيت الأبيض لتحديد أهدافه الكبيرة. المفترض أن الاستراتيجية القومية تقدم كل عام - رغم أن ذلك لا يحصل- إلى الكونغرس الأمريكي مع مشروع الميزانية للتوافق بين متطلبات مشروع الميزانية والأهداف الاستراتيجية.
وقد شرعت الإدارات المتعاقبة منذ إدارة الرئيس رونالد ريغان، إلى الآن، بإطلاق وثيقة استراتيجية الأمن القومي للتعبير عن وجهتها وأهدافها القومية. وهناك مجاميع كثيرة مستهدفة من نشر الوثيقة، ومن هذه المجاميع، المواطنون الأمريكيون، المؤسسات المعنية بقضايا السياسة الخارجية والأمن القومي، مثل وزارة الخارجية والدفاع والأجهزة الاستخباراتية، وكذلك العالم الخارجي من الأصدقاء والمناوئين.
الاستراتيجية الحالية، هي تحول كبير عن الاستراتيجيات السابقة، بل أزعم أنها تحول عن الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.. فبعد انتصار الولايات المتحدة في هذه الحرب، قامت واشنطن بنسج نظام عالمي جديد، تستطيع من خلاله الهيمنة على النظام الدولي، رغم وجود قوة عظمى أخرى، متمثلة في الاتحاد السوفييتي.
أقامت الولايات المتحدة النظام الليبرالي الدولي على ثلاثة أركان رئيسة، الأيديولوجية الليبرالية المتمثلة بالحرية الاقتصاد، مثل حرية التجارة وحرية تنقل الرأسمال والحريات السياسية، أما الركن الثاني، فهو يتمثل بتشييد مؤسسات مالية وسياسية وأمنية تدير النظام الليبرالي العالمي، المؤسسات المالية، مثل اتفاقية برتنزوود، والذي أسس لهيمنة الدولار كعملة عالمية، وأيضاً مؤسستي النقد الدولي والبنك الدولي، لضمان سير النظام الليبرالي الدولي، وتفادي المطبات ومعالجة الإخفاقات. وكما أقامت الولايات المتحدة تحالفات عسكرية ومعاهدات، والمتمثل في حلف الناتو، لضمان الأمن والسلم الدوليين لصالح النظام الليبرالي الدولي. وفي هذا المضمار، لتحقيق منصة عالمية مع خصوم النظام الدولي— الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو ودول العالم النامي، وجدت الأمم المتحدة.
أما الركن الثالث، هو الخليط من كل الركنين، بما يحقق الهيمنة الأمريكية. الهيمنة بالمفهوم الغرامشي، هي تلازم بين القسر والإقناع. وضرورة الهيمنة لجهة أن المهيمن (في هذه الحالة الولايات المتحدة)، يستطيع أن يثيب أو يعاقب من يخالف النظام. كما أن المهيمن يقدم ما يسمى بالمنافع العامة الدولية المتعلقة بتأمين طرق المواصلات البحرية وغيرها، كما أنه المسؤول عن البنية المؤسساتية للأنظمة المالية والاقتصادية والتجارية.
والمهيمن هو المستفيد الأول من موقعه بسبب فائق القوة على كل اللاعبين. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن شركاتها تجوب العالم، وتستثمر في الشرق والغرب والشمال والجنوب.. وعملتها الدولار هي العملة المهيمنة، والتي تسمح للولايات المتحدة لطباعة المزيد من العملات دون غطاء حقيقي.. كما تتحكم في التحويلات المالية بالدولار، وتمارس ضغوطها السياسية عبر هذه الآلية. بالنسبة لترامب واستراتيجيته الجديدة، تحولت كل هذه المفاهيم من الليبرالية الاقتصادية وحرية الأسواق، إلى القومية الاقتصادية، ومن تقديم منافع عامة للنظام الدولي، إلى جلب منافع للولايات المتحدة، ومن التحالف مع أوروبا، إلى التحول من أوروبا لأمريكا اللاتينية، والتي طالما اعتبرتها واشنطن الحديقة الخلفية، ولن تسمح واشنطن، تبعاً لمبدأ الرئيس منرو، والذي حذر القوى العالمية في بداية القرن التاسع عشر من فرض نفوذها في أمريكا اللاتينية.
بالنسبة لترامب، فإن أوروبا فقدت هويتها الحضارية بسبب تدفق المهاجرين، والذين محوا الحضارة الأوروبية، والمقصود المسلمون والأفارقة، ولا يمكن التعويل عليها بهذا السبب. وتشير الاستراتيجية لانعدام الحريات السياسية، بسبب قمع حقوق اليمين القومي في أوروبا.. وفي نفس الوقت، تقول الاستراتيجية إن نشر أو فرض الديمقراطية في العالم، كان خطأ فادحاً، ويجب تجنب ترويج هذه المفاهيم الغربية على بعض المجتمعات.
لا يسمح المجال هنا للتوسع في استعراض كل ما جاء في الوثيقة، ولكن الأهم، أو الخط الجامع بين كل ما ورد في الاستراتيجية، هو أن ترامب يريد جلب كل المنافع التي يحصل عليها المهيمن، دون دفع ثمن قيادة العالم من المال والرجال. ولكن الشاعر يقول: ولكل شيء آفةٌ من جنسه حتى الحديدُ سطا عليه المبرَدُ.