إذا عدتَ، أيها القارئ العزيز، إلى معاجم اللغة العربية لمعرفة معنى «يجب»، فإنك ستقع على دلالات كثيرة لهذا الفعل المشتق من الجذر «وجب».

و«وجب» في الأصل تعني لزم وثبت وتحتم.. و«يجب» فعل مضارع يفيد معنى الأمر.. وفي الخطاب غالباً ما يستخدم لطرح الضرورة، وبخاصة ضرورة تحقيق البديل عن عالم مرفوض.

والمتابع للحوارات والنقاشات والشجارات التي تجري بين مثقفين مختلفي المشارب على الشاشات التلفزيونية، يستمع إلى ترديد كلمة «يجب» مرات عدة.

ولما كان استخدام «يجب» يتم في حقل الاختلاف السياسي والأيديولوجي والاجتماعي، وهي حقول الممكنات والاحتمالات والمصادفات وعلاقات القوى، فإن «يجب» تشير أول ما تشير إلى التعصب.. و«يجب» التعصب مختلفة عن «يجب» الالتزام المرتبط بالواجبات.

فعندما نقول: يجب الالتزام بقانون السير، فهذا أمر مرتبط بالقانون، وعدم التزام الفرد به يعرّضه للعقوبة.

لكن الفرق بين «يجب» الالتزام القانوني و«يجب» الخطابات المتعلقة بمشكلات المجتمع والسياسة والاقتصاد وتنوعها كبير.

من طبيعة البشر أن يتصوروا عالماً أفضل من عالم لا يرضون عنه، حتى إذا كانوا راضين فإنهم يطمحون إلى الأفضل.

ولهذا فإنهم مولعون بما يجب أن يكون، لكن المثقف الذي يطرح ما يجب أن يكون دون أن يمعن النظر في الواقع بما هو عليه من مشكلات، فإنه، رغم مدخله الأخلاقي، لا يفكر واقعياً.

لنتأمل فعل الأمر «يجب» المتعلق بالصراعات.. فعند كل طرف من أطراف الصراع ما يجب، وما يبرر حق التناقض. المشكلة لا تقع في حقل ما يجب من زاوية الحق والقانون، بل في البحث عن سبل تحقيق الحق والقانون.

هب أن شخصاً أخلاقياً قال في حلقة نقاش: يجب التغلب على واقع الفقر في الدولة (سين) الذي تصل نسبته إلى 90% وصمت بعد ذلك..

واتفق الجميع على هذا الأمر، ولكن ماذا عن الشروط الضرورية لتحقيق ما يجب؟ هل تحقيق هذا يقع في حقل الإمكان؟ وهل الشروط يمكن أن تتوافر لتحقيق هذه الغاية النبيلة؟

لنفترض بأن هذه الدولة (سين) عاشت صراعات، وما زالت تعيشها، ومواردها محدودة، وبنيتها التحتية مدمرة.. إلخ. إذن فالنقاش العلمي المنطقي لا يستقيم إلا في السؤال الأهم الذي يتعلق بالممكن القابل للتحقق بعد دراسة الشروط الموضوعية.

والأدهى من ذلك النزعة الإرادوية في الصراع السياسي المسلح، التي تطرح ما يجب مع عجز إرادي من جهة، وغياب الشروط الموضوعية من جهة ثانية.

وأسوأ فعل «يجب» هو ذاك المتعلق باستعادة بنية ماضية عفا عليها الزمن، بشروطها وناسها وقيمها وخطاباتها.

الماضي لا يعود، والإرادة التي تجعل غايتها إعادة الماضي هي إرادة عاجزة، رغم ما تظهره من عنف لا قيمة عملية له، اللهم سوى تخريب الحياة.

إرغام الحاضر على أن يعود إلى ماضٍ لا يعني سوى أن الماضي هو المستقبل، والعقل الذي يرى مستقبلنا في ماضينا عقل لا يفكر لا بقوانين الحياة ولا بجديدها، ولا بمنطق الزمن الواقعي وما هو عليه من تطوّر يتجاوز ما كان، ويخلق غايات جديدة دون توقف.

هذا لا يعني أن ننكر على الناس حقهم في الآمال والأحلام، فهذا ليس بمقدور أحد أن يفرضه، لكنّ هناك فرقاً بين أحلام الفرد التي تظل وقفاً عليه، وأحلام المجتمع والوطن ونخبته السياسية والفكرية والاقتصادية والعلمية.

فأحلام الوطن والمجتمع هي أحلام تظل مشدودة إلى ما يتوافر لها من أساليب وأدوات وممكنات وطموحات واقعية، وهنا تبرز العلاقة بين العقل والواقع، بين العقل الواقعي والواقع العقلي..

فالعقل الواقعي المبدع هو الذي يرى ما هو محجوب عن العقل العادي، وهو الذي يخلق ما يطلق عليه «المعجزة» الاقتصادية والتنموية والعمرانية، وما تولّده هذه المعجزة من وعي جديد وذهنية جديدة.