هل الأمريكيون متساوون في العدل والحرية؟

الصدفة وحدها جمعت على صفحات الأخبار رمزين بارزين ينتميان لجيلين مختلفين في شهر واحد.. فالأسبوع الذي يوافق الذكرى الستين لليوم الذي غدت فيه روبي بريدجيز أول طفلة أمريكية سوداء درست بمدرسة للبيض بمدينة نيو أورلينز، كانت الصحف تنشر خبراً عن نقل القس جيسي جاكسون للمشفى، بينما تطلب أسرته من محبيه الدعاء له.. وكل من بريدجيز وجاكسون يمثل مرحلة مختلفة من كفاح السود من أجل العدل والحرية.

فبعد أحد عشر عاماً كاملة من قرار المحكمة العليا الذي حظر الفصل العنصري في المدارس عام 1954، كانت الولايات المختلفة لا تزال تتفنن في اختراع الحيل للالتفاف حول القرار ومنع تنفيذه.. ففي نيو أورلينز، مثلاً كانت المدارس تجبر التلاميذ السود على اجتياز اختبار تعجيزي معروف سلفاً أنه يصعب اجتيازه.. لكن في عام 1965، اجتازه أربعة منهم، بينهم روبي بريدجيز ذات الست سنوات، فكان لزاماً على المدرسة قبولها.

ورغم أن الحرس الفيدرالي كان يصطحبها يومياً في سيرها للمدرسة لحمايتها، فقد كانت أسر التلاميذ البيض تنتظرها كل صباح لإرهابها.. فمرة يحملون نعشاً بداخله دمية سوداء، ومرة يهددون بتسميمها.. لكن الطفلة ظلت مصرة على الذهاب لمدرستها.

أما المدرسون، فباستثناء واحدة، امتنعوا عن تعليم بريدجيز، وما هي إلا أسابيع حتى نقل البيض أبناءهم لمدارس أخرى ولم يبقَ بمدرسة بريدجيز سواها ومعها مدرستها التي رفضت التخلي عنها.

وكفاح روبي وعائلتها للحصول على حقها في التعليم كان جزءاً أصيلاً من كفاح حركة الحقوق المدنية وقتها التي انتفض فيها السود من أجل العدل والمساواة.

ورغم أن حركة الحقوق المدنية نجحت في إلغاء الفصل العنصري قانوناً وفي تحقيق المساواة السياسية، لم يمهل القدر مارتن لوثر كنج، الذي كان قد شرع يعلن أنه سينتقل بكفاحه إلى الحقوق الاقتصادية.

لكن كنج لم يكن وحده بحركة الحقوق المدنية، إذ رافقته رموز مهمة منهم أندرو يانج الذي صار لاحقاً ممثل بلاده بالأمم المتحدة، وجيسي جاكسون الذي كان لا يزال طالباً بالجامعة ولكنه تولى وقتها برنامجاً أنشأته الحركة لدعم السود اقتصادياً من إيجاد الوظائف في مدنهم وأحيائهم إلى دعم أصحاب الأعمال السود.

ثم أنهى جاكسون دراسته لعلم الاجتماع وتركزت دراساته العليا في الأديان، وصار قساً بمدينته شيكاغو.. وهو استكمل عمله في مجال الحقوق المدنية عبر مؤسسة جديدة أنشأها، إلى أن ترشح لمنصب الرئاسة عن الحزب الديمقراطي عامي 1984 و1988.

والحملتان كانتا بمثابة تحول مهم في الحياة السياسية الأمريكية.. فجاكسون كان أول مرشح أسود لديه فرصة جدية للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، الأمر الذي كان بمثابة تحريك للمياه الراكدة بعد عقدين من حركة الحقوق المدنية كانت أمريكا خلالهما تتظاهر بأن الحركة أنجزت المساواة الكاملة.

لكن أعوام رونالد ريغان في الحكم مثلت انتكاسة حقيقية وتراجع منظم عن الكثير من المكتسبات التي حققتها الحركة.

وجاكسون الذي مثل التيار التقدمي بالحزب الديمقراطي، سعى لأصوات كل القطاعات المهمشة بالمجتمع، لا فقط السود، من خلال ما أسماه وقتها ائتلاف قوس قزح، ليكون تعبيراً عن احتضان كل ألوان الطيف من السود والأمريكيين الأصليين لذوي الأصول اللاتينية والآسيوية، فضلاً عن البيض الفقراء واتحادات العمال.

وجاكسون كان من أوائل من دعوا لحد أدنى للأجور لرعاية صحية تشمل كل الأمريكيين، فضلاً عن أنه كان رائداً في مجال السياسة الخارجية.. ففي زمن الحرب الباردة كان من قلائل تحدثوا علناً عن الحاجة للتوافق بين القوتين العظميين، وأول مرشح للرئاسة يدافع علناً عن حقوق الفلسطينيين، فدعم الأمريكيون العرب حملته وأعطوه أصواتهم.. وبعد حملاته الرئاسية قام بعدة جهود وساطة ناجحة بين دول مختلفة حول العالم.

وقد مهدت حملة جاكسون الطريق أمام غيره من السود وعلى رأسهم باراك أوباما الذي ترشح بعد جاكسون بعقدين كاملين.. لكن لعل أهم إنجازات جاكسون على الإطلاق، كان أنه من خلال ائتلاف قوس قزح، أجبر أمريكا إجباراً على أن تنظر بالمرآة لترى كل أولئك المهمشين الذين تتجاهلهم بينما تروج مزاعم مؤداها أن الأمريكيين متساوون في العدل والحرية.