فضيلة الالتباس..!

ليس من السهل اليوم أن تعبّر عن رأيك في موقف ما، دون أن تُساء نيتك، أو يُعاد تأويل كلامك، أو يُطلب منك التراجع عنه بصيغة أكثر «مرونة»، فالكلمات الواضحة لم تعد بريئة

والجُمل الحاسمة صارت عبئاً على قائلها، وفي المقابل، أصبح الالتباس مساحة آمنة، لا يُسأل صاحبها عما يعنيه تماماً، ولا يُحاسَب على ما لم يقله صراحة، وهكذا تغيّر ميزان الخطاب، فلم يعد الوضوح ميزة، بل مخاطرة حقيقية..!

وما نشهده ليس تراجعاً في القدرة على التعبير، بل تحوّل في السلوك الخطابي نفسه، حيث صرنا نفضل الكلام «القابل للتراجع»، والفكرة التي تحتمل أكثر من معنى، والموقف الذي يمكن إنكاره أو تعديله لاحقاً

وفي هذا السياق، يُقاس الذكاء الاجتماعي بمدى القدرة على التملص، فالوضوح بات عبئاً تداولياً، يُعرّض صاحبه للمساءلة، بينما ينجو من يترك كلامه معلّقاً بين احتمالات متعددة، ولم يعد السؤال المطروح: هل الفكرة دقيقة؟ بل هل هي مرنة بما يكفي لتتحمل التأويل وإعادة التموضع؟.

وخلال قراءتي لكتاب «لن تتكلم لغتي»، للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، لفت انتباهي إصراره الهادئ على أن سوء الفهم ليس خللاً في اللغة، ولا نتيجة ضعف في التواصل، بل شرط ملازم لاختلاف الأفق بين المتحدث والقارئ، ويمكن رؤية هذا الشرط اليوم، في مشهد بسيط، من خلال نص واضح يُقرأ بعين الريبة، بينما يمنح النص الغامض قيمة إضافية فقط لأنه غامض، وهذه المفارقة ترتبط بتغير في قواعد المسؤولية

فالوضوح يضع صاحبه في موقع مكشوف داخل دائرة الأخذ والرد، بينما يمنح الالتباس هامشاً آمناً، يسمح بإعادة ترتيب الموقف عند أول احتكاك، وهكذا تتحول اللغة من وسيلة لإنتاج المعنى، إلى أداة لإدارة المخاطر، ويصبح إبقاء الجملة مفتوحة، جزءاً من استراتيجية تخفيف التكلفة الرمزية لأي موقف.

وما يعمّق هذا التحوّل، أن البيئة الرقمية اليوم، بما تفرضه من سرعة في التلقي، وحساسية عالية تجاه الكلمات، قادرة على إعادة تشكيل أي تصريح خلال دقائق، ما جعل الالتباس خياراً عملياً لإدارة الحضور، ويمكن رؤية ذلك في أمثلة مألوفة، كتصريح موجز يُقتطع من سياقه

فيتحوّل إلى قضية رأي عام، أو نقد مهني في بودكاست اجتماعي، يُفهم كاتهام، أو رأي بسيط يُعامل كإعلان موقف نهائي، لهذا، يميل كثيرون إلى ترك العبارة في منطقة وسطى

فالمسؤول يتجنّب التصريح المباشر بالأولويات، كيلا تُفهم كوعود ملزمة، والمثقف يكتفي بالتلميح، لأن أي قول صريح قد يُدرجه تلقائياً ضمن اصطفاف فكري لا ينوي تبنّيه أصلاً

والكاتب يقدّم فكرته بصيغة احتمالية، كيلا تتحوّل إلى التزام، وفي سياق افتراضي ممتد، يتضخم فيه التأويل، وتُحمّل الكلمات أكثر مما تحتمل، يصبح الوضوح مجازفة غير ضرورية، بينما يوفر الغموض مساحة تحمي المتكلّم من ضغط التوقعات، وثِقل المواقف النهائية.

وألاحظ أن هذا النسق لم يعد حكراً على الخطابات العامة، بل تسلل إلى المجال المعرفي ذاته، حيث صرنا نثق بما لا نفهمه تماماً، ونشك في كل قول يبدو واضحاً أكثر مما ينبغي، وكأن الوضوح فقد شرعيته الاجتماعية

وفي المقابل، يُمنح الغموض هالة العمق، حتى حين يكون بلا مضمون حقيقي، وما يحدث هنا، ليس اتساعاً في أفق التفكير، بل تعليق دائم له، فالتعليق يخلق وهم الانفتاح، لكنه يُعطل القدرة على اتخاذ موقف، ويجعل العقل يقيس ردود الفعل، قبل أن يختبر صحة الفكرة.

ولعلنا بلغنا مرحلة إدراك أن الالتباس لم يعد نتيجة طبيعية لاختلاف القراءات، بل خيار واعٍ يُمارَس بحساب دقيق، فالجملة التي لا تُغلق معناها، والموقف الذي لا يُستكمل، يبدوان أكثر أماناً من قول مكتمل يمكن مساءلته، ومع الوقت، بتنا نحتفي بقدرتنا على إبقاء الباب موارباً، حيث تتضاءل المطالبة بالوضوح، وتنحسر المسؤولية، وربما يكون السؤال الأصدق اليوم: ماذا يخسر الخطاب حين يصبح الالتباس فضيلة؟.