العلوّ الذي لا يُرى

عام 1842 حلّق الروائي الروسي الكبير نيكولاي غوغول في الوعي الإنساني من خلال قصته الشهيرة «المعطف»، تلك القصة التي كان لها أثر بالغ في الأدب الروسي، إذ فتحت آفاقاً إنسانية عميقة تجاوزت حدود الزمان والمكان، وجعلت من الإنسان البسيط محوراً للتأمل والسؤال.

تدور أحداث القصة حول معطف رجل يُدعى أكاكي أكاكيفتش، إنسان بسيط محدود الطموح، يعيش حياة متقشفة في ظل محدودية الإمكانات، ولا يطلب من الحياة سوى الحد الأدنى من الدفء والاستقرار.

وقد نجح غوغول في تصوير حال هذه الفئة من الناس الذين قيدهم الروتين الإداري الجامد، حيث تُختزل القيمة الإنسانية في الإجراءات، ويغيب الاعتراف بالطموح الإنساني، فيتحول الإنسان إلى رقم لا يلتفت إلى تطلعاته أو صوته الداخلي.

لم يكن المعطف في القصة مجرد قطعة لباس، بل رمزاً للأمان المؤقت، وللاعتراف الاجتماعي، ولحاجة إنسانية مشروعة تمنح صاحبها شعوراً بالوجود في عالم اعتاد تجاهله.

غير أن قراءة القصة لا ينبغي أن تتوقف عند هذا الحد، بل تدعونا إلى التأمل في معنى الطموح وحدوده، وفي السؤال الأعمق: هل يمكن للحاجة، مهما كانت ضرورية، أن تكون نهاية الحلم؟

فهنا يتجلى مفهوم العلو الذي لا يُرى؛ ذلك العلو الذي لا تصنعه الأشياء، ولا تقاس به المظاهر، بل يتكون في الداخل، في الوعي، وفي القدرة على تجاوز حدود الاكتفاء إلى أفق أوسع من المعنى.

فالإنسان لا يُقاس بما يمتلكه، بل بما يسعى إليه، وبما يحمله من قيم ورؤية. وكأن الإنسان، في سعيه نحو هذا العلو، يصنع لنفسه جناحين غير مرئيين، قوامهما الطموح، والاعتماد على الذات، والثقة. جناحان لا يُصنعان للتحليق الاستعراضي، ولا لامتلاك السماء، بل للاقتراب منها بوعي ومسؤولية. فالجناحان لا ينكران الحاجة، ولا يتعالَيان عليها، بل يتجاوزانها دون إقصاء، نحو بناء الإنسان لذاته ودوره في مجتمعه.

ومن هنا، لا تقف رسالة المعطف عند حدود النقد الاجتماعي، بل تمتد لتلامس مسؤولية الفرد تجاه وطنه. فالأوطان لا تنهض بالاكتفاء بالمطالب الآنية، بل بسعي أبنائها إلى الإسهام، والعطاء، وصون القيم التي تمنح المجتمع هويته واستمراره.

وفي الختام، تذكرنا قصة المعطف بأن الأوطان لا تبنى بالشعارات، بل بما نصونه من قيمة وهوية؛ فلا تجعل طموحك محدوداً، فأنت تنتمي إلى وطنٍ طموحه أوسع من القيود، وأبعد من أن تحده السماء.