أصدقاء بلا وجوه.. من أصدقاء الحي إلى أصدقاء الشاشة

تخيَّل أن طفلك يضحك لساعات مع شخص لا تعرف اسمه، ولا عمره، ولا أين يعيش... كل ما بينهما شاشة صغيرة وزر «إضافة صديق» بينما في زمنٍ لم يكن بالبعيد، كانت البيوت الإماراتية – مثل معظم البيوت العربية – تمتلك ما يشبه «الإدارة الأمنية الأسرية»؛ سلطة هادئة لكنها حازمة، تُصدر ما يمكن تسميته بـ«شهادة لا مانع من الصداقة».

وكانت صاحبة التوقيع الأخير دائماً هي الأم. لم تكن تلك السلطة مكتوبة في قانون، لكنها كانت جزءاً أصيلاً من نسيج المجتمع؛ عرفاً جميلاً حمى الأطفال من عثرات الطريق، ووجّه خطواتهم نحو الصداقات السليمة.

ثلاث دوائر من الأمان... هكذا كان الأطفال يصادقون، تتشكل صداقات الماضي عبر ثلاث دوائر رئيسية:

1. دائرة العائلة:

صداقة تنمو من رحم الدم والنسب والزيارات العائلية. كانت الأم تعرف كل طفلٍ يدخل بيتها، وتعرف أمه وجدته وخالته، وتستطيع – من نظرة واحدة – أن تزن إن كان هذا الرفيق مناسباً لابنها أم لا، كثير من هذه الصداقات امتدّت من المهد إلى اللحد.

2. دائرة الحي:

كانت الأزقة ملعباً آمناً، يجتمع فيه أطفال تتفاوت أعمارهم عاماً أو عامين فقط، تبعاً لـ«معايير الترخيص الاجتماعي» غير المعلن، يلعبون ويضحكون ويتشاجرون ويتصالحون، ولم يكن في الحي خطر يمكن أن يختبئ خلف شاشة أو اسم وهمي.

3. دائرة المدرسة:

زمالة العمر والمرحلة السنية نفسها. مشاكلهم بسيطة: واجب صعب، مدرس محبوب، مادة مكروهة... صداقات بريئة، بيئتها واضحة وعناصرها معروفة. كانت الأم تراقب كل هذه الدوائر. ولأن المخاطر محدودة، كان حُكمها دقيقاً وحازماً... وأحياناً منقذاً.

مع رياح التمدن بدأت دائرة الحي تتلاشى واختفى ذلك الملعب الآمن ووسط هذا الفراغ برزت دائرة جديدة هائلة ومقلقة هي العالم الافتراضي... صداقة بلا وجه وبلا عمر لم تعد الصداقة مرتبطة بالمكان أو العمر أو البيئة.

هنا ظهر جيل جديد من الأبناء يمكن وصفه بـ«مواطنين رقميين»، يولدون تقريباً وفي أيديهم شاشة، بينما كثير من الأمهات والآباء «مهاجرون إلى العالم الرقمي» ما زالوا يتعلّمون لغته وحدوده. هذه الفجوة لا تعني عجز الأم، بل تعني أن إحساسها وخبرتها الحياتية يجب أن تسبق سرعة أصابع الطفل على الشاشة.

طفل عمره 12 عاماً قد يصادق شاباً عمره 24. وطفلة في عمر 16 عاماً قد تتحدث يومياً مع رجل أربعيني، وجميعهم يجتمعون داخل شاشة لا تُظهر نيّة ولا سلوكاً ولا أخلاقاً.

طفل في الصف السادس بدأ يقضي ساعات في لعبة إلكترونية مع شخص يدّعي أنه «طفل في المرحلة المتوسطة»، وبعد فترة، اكتشفت الأم بالصدفة – عبر رسالة صوتية – أن صديق ابنها كان رجلاً بالغاً يتجاوز الثلاثين. تدخلها السريع أنهى علاقة كانت قد تقوده إلى مسارات خطيرة.

فتاة في المرحلة الثانوية تلقت «نصيحة دراسية» من صديق افتراضي في مجموعة تعليمية. تدرّج الأمر إلى طلب صور، ثم إلى محاولة لقاء، ولكن يقظة الأم وفتحها حواراً صادقاً مع ابنتها أنقذ الموقف قبل أن يتطور.

هذه القصص ليست استثناءً... بل باتت حقيقة يومية في زمن بلا قيود عمرية، وبلا قواعد واضحة لطبيعة العلاقات الإلكترونية.

لماذا الأم تحديداً؟

لأن الأم – بفطرتها – تملك قدرة لا تملكها أي تقنية (الإحساس ) هي أول من يشعر بأن سلوك ابنها تغيّر، أو أن هناك شخصاً جديداً يتسلل إلى عالمه، هي من تلاحظ الصمت المفاجئ، والضحك المفرط، والإدمان غير المبرر للشاشة. وفي زمن تتضاعف فيه المخاطر الإلكترونية، أصبح دورها ليس فقط مراقبة الصداقة... بل فهمها ومناقشتها واحتواؤها.

كيف تعود الأم إلى صدارة المشهد؟

بناء علاقة ثقة من خلال الحوار اليومي هو أفضل جهاز إنذار مبكر كلما تحدث الطفل أكثر، قلّت مساحة المجهول. معرفة أصدقاء أبنائها وخلفياتهم، سواء كانوا من المدرسة أو العالم الافتراضي، وهذا ليس تقييداً للحرية أو دكتاتورية، هذا عبارة عن (قماط) إن صح التعبير الذي يحمي الرضيع قبل أن يتحول إهماله إلى (كفن).

وهنا تبرز لدينا أهمية قاعدة الصديق المعلن، حيث يمكن للأم أو ولي الأمر أن تضع لنفسها قاعدة بسيطة لأي صديق يدخل حياة الابن، سواء من الحي أو المدرسة أو الشاشة:

لا يوجد «صديق آمن» ما لم تتوافر عنه ثلاث معلومات واضحة: الاسم الحقيقي أو الواضح، العمر التقريبي، ومن أين بدأت هذه الصداقة؟ مدرسة، لعبة، مجموعة تعليمية، تطبيق تواصل؟

إذا غابت واحدة من هذه الثلاث، تُعتبر العلاقة «علاقة تحت المراقبة». وإذا رفض الطفل الإجابة عن هذه الأسئلة أو توتر عند طرحها، تتحول العلاقة – بحسب القاعدة – إلى «علاقة غير آمنة» يجب إيقافها أو تضييقها.

ما لا يمكن أن يُقال بصراحة في البيت، لا يستحق أن يستمر سراً خلف الشاشة، ويجب حينها تعليم أطفالنا مهارات «الصداقة الصحية» والتي تبرز في: كيف يختار الصديق؟ كيف يرفض علاقة غير مريحة؟ كيف يميز بين النصيحة والاستغلال؟

وبما أننا اليوم في واقع لا مفر منه في عالم التكنولوجيا والتطور السريع فلا بد للأم أن تطرح أسئلة ذهبية تساعدها في كشف الخطر مبكراً، قبل أن توافق الأم ضمنياً على صديق إلكتروني: هل أعرف هذا الصديق بالاسم والبيئة ولو بشكل عام؟

هل لاحظت تغيّراً في مزاج ابني أو سرّيته منذ ظهوره؟ هل هذه العلاقة تضيف لابني، أم تسحبه بعيداً عن أسرته ودراسته؟ هل يقبل ابني أن نتحدث عن هذا الصديق بهدوء، أم يغضب ويتوتر فوراً؟

الأم ليست رقيباً فقط... بل هي بوصلة. وبقدر ما يتغير الزمن وتتبدل طرق التواصل، يبقى دور الأم ثابتاً لحماية قلب صغير وثق بها، ووجهٌ يبتسم لها كلما رأى فيه الأمان.

في النهاية، ليست المشكلة في الشاشات، بل في أن يبقى الطفل بلا يدٍ تمسكه حين تضيع الحدود بين الصديق الحقيقي والصديق الوهمي؛ لذا أقولها وبكل ثقة... طفل يملك أمّاً حاضرة، تحميه... أقوى من كل برامج الحماية، ولو كانت أحدث ما في السوق.

  الرئيس التنفيذي لمؤسسة تنظيم الصناعة الأمنية - دبي