تنسب للروائي الروسي أنطون تشيخوف أنه قال: «منذ أربعين سنة عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري عثرت في الطريق على ورقة مالية فئة العشرة روبلات، ومنذ ذلك اليوم لم أرفع وجهي عن الأرض أبداً،.

وأستطيع أن أحصي حصيلة حياتي، وأن أسجلها كما يفعل أصحاب الملايين، فأحسبها هكذا: 2917 زراراً، 244172 دبوساً، 12 سن ريشة، 3 أقلام، 1 منديل، إضافة إلى ظهر منحنٍ وحياة بائسة!».

هي قصة متخيلة بالتأكيد، فتشيخوف هو أحد أعظم كتاب القصة القصيرة في التاريخ وثاني أهم كاتب في المسرح بعد شكسبير، ولم يكن ليصل لهذه المكانة لو بقي يفتش عن عملات ملقية على الأرض طيلة حياته، لكنه أراد إيصال رسالة لمن يريد استيعاب أحد أهم دروس التاريخ، ألا و هي أن الحظ - مجازاً - يأتي لمن يستعد له جيداً لا لمن يبحث عنه دون استعداد!

يفاجئك الباحثون عن الحظ السعيد بقصص مبتورة لتأييد رأيهم، فجيف بيزوس ترك عمله في وول ستريت، لأنه رأى رقماً مصادفة عن نمو الإنترنت بنسبة 2300% سنوياً،.

فقام بإنشاء شركته الشهيرة أمازون، وبيل غيتس قادت الصدفة أن مدرسته الصغيرة بإحدى ضواحي سياتل حصلت على جهاز كمبيوتر، فأتاحت له فرصة تعلم البرمجة، ومن ثم إنشاء شركة مايكروسوفت.

وقادت الصدفة أوبرا وينفري، بعد فشلها مراسلة أخبار، لتصبح من أشهر مقدمي البرامج الجماهيرية، وأيضاً تدخل الحظ مع ستيف جوبز، ليتعلم كتابة الخطوط الجميلة Calligraphy، الذي أثرى تصاميم برامج شركته أبل وتصاميم منتجاتها.

وتسبب عطل مفاجئ لقطار كانت تستقله جي كي رولينغ، لتولد في مخيلتها شخصية هاري بوتر الشهيرة، إذاً فلننتظر مثل هذه المصادفة السعيدة، التي ستقلب حياتنا من الهامش للقمة، ومن الفشل للنجاح المبهر!

لو كانت الحياة بهذه السطحية لما تعلم إنسان ولا اجتهد آخر، بل يكفي الجلوس مع دلة كرك انتظاراً لقدوم ذلك الحظ المبارك، وكم يستعصي على العاقل تفهم طريقة تفكير أولئك الأشخاص ولهاثهم خلف كل أفاكٍ وأفاكة من دجاجلة ما يسمى علوم الطاقة.

وبأن اتصالك بشبكة طاقة الكون و«الشكرات» التي يرددها دون توقف هؤلاء النكرات سيجلب لك النجاح والثراء والسلام الداخلي، وأن دعاوى فلان وفلان عن أهمية الجهد والتخطيط لجلب النجاح أكذوبة كبرى.

ففلان لولا «الواسطة» ما وصل وما نجح، لذا لا يتوقف هؤلاء عن تتبع كل دعاوى الفاشلين، ويستمعون باقتناع لكل أباطيل الدجاجلة والدجالات من فئة: اشعري بالذبذبات والاهتزازات!

لا بديل أبداً للجهد والعمل المضني والتخطيط الجيد القائم على المعرفة، ولا يمكن أن يقتنص الفرَص – التي يسميها الفارغون حظاً - إلا من جمع القدرات والدافع الداخلي للتنافس مع الآخرين من أجل الوصول لما يطمح إليه، فلو لم يكن بيزوس ذكياً بما فيه الكفاية لما انتبه لما يعنيه ذاك الرقم.

فقد رآه مئات الآلاف أيضاً، ولم يحركوا ساكناً، وستيف جوبز كان يتكلم كثيراً عن «ربط النقاط» بمعنى أن تتعلم أشياء كثيرة متناثرة، لكنها في المستقبل ستخلق لك فرصة لم تتوقعها أو تقتنصها لك.

ومن حضر دروس الخط معه كثيرون وما زالوا، ولكن لم يفعلوا ما فعله ولا ألهمهم شيئاً، وبمدرسة غيتس المئات من الطلاب ووحده من قاده حماسه وطموحه للتعلم والاستفادة، ولو لم يرَ منتِج البرنامج الجماهيري موهبة مختلفة لدى أوبرا ما عرض عليها الوظيفة، وحققت بعدها نجاحاً منقطع النظير!

أما جي كي رولنغ فقد كانت عاطلة تقريباً، وكانت متجهة إلى لندن، فتعطل القطار في منطقة ريفية، تترامى فيها الحقول الخضراء بمقاطعة شيشاير، واستمر العطل أربع ساعات كاملة، ولم يكن لديها كتاب لملء الفراغ أو ورقة أو قلم، وبقيت تنظر من النافذة، وأطلقت العنان لخيالها، وتولدت فكرة عظيمة دفعة واحدة، تقول رولينغ:

«كنت أنظر إلى الحقول فجأة ظهر الصبي هاري بوتر كاملاً في رأسي، مع الندبة والنظارات والخوف من أن يكون مميزاً، وبعدها جاءت فكرة أنه ساحر ولا يعرف ذلك، وأن هناك مدرسة سحرية مخفية، كل شيء انفجر في رأسي خلال هذه الساعات الأربع».

ارتحلت لمدينة بورتو البرتغالية لتعمل مدرسة لغة إنجليزية وهناك كتبت روايتها الأولى «هاري بوتر وحجر الفيلسوف» على طاولة منعزلة في مقهى Majestic، وأرسلتها فور كتابتها إلى 12 دار نشر، رفضتها جميعاً، ولم تيأس أو تبكي على الحظ السيئ حتى قبلتها دار Bloomsbury، وتحكي الأرقام بقية الحكاية:

أكثر من 120 مليون نسخة، مترجمة لأكثر من 133 لغة، لتصبِح رولينغ أول مليارديرة في التاريخ من الكتابة، وحتى الساعة يضع مقهى Majestic في بورتو لافتة تقول: «هنا كتبت جي كي رولينغ رواية هاري بوتر»!