الذكاء الاصطناعي بين تمكين التطرف وإعادة تشكيل استراتيجيات المواجهة

لم يعد التطرف ظاهرة محصورة في الجغرافيا أو رهيناً لأدوات تقليدية في الدعاية والتعبئة، بل تحوّل إلى سرطان خبيث عابر للحدود، شديد المرونة، قادر على التكيف مع التحولات المتسارعة في البيئة الاتصالية والتكنولوجية، ومع الصعود المتنامي للذكاء الاصطناعي.

دخلت التيارات المتطرفة مرحلة جديدة من الفعل الاستراتيجي، لم تعد فيها الأيديولوجيا وحدها هي المحرك، بل باتت الخوارزميات، والبيانات، ومنطق التأثير الرقمي عناصر حاسمة في إعادة تشكيل الخطاب ووسائل الانتشار.

تاريخياً، تُظهر مسيرة التيارات المتطرفة نمطاً ثابتاً من التكيف مع أدوات التأثير السائدة، فمن الخطاب الشفهي المباشر والمنشورات الورقية، إلى الإعلام الجماهيري المرئي والمسموع، ثم إلى الفضاء الرقمي التفاعلي، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي.

هذا التطور لا يعكس براعة تقنية بقدر ما يكشف عن فهم عميق لمنطق التأثير في المجتمعات الحديثة، حيث لم يعد الإقناع قائماً على الخطاب وحده، بل على إدارة الانتباه، وبناء السرديات، وتشكيل الوعي عبر التكرار والتخصيص.

يمثّل الذكاء الاصطناعي ذروة هذا التحول في وسائل التأثير، إذ أتاح للتيارات المتطرفة القدرة على إعادة إنتاج خطابها بصورة أكثر إقناعاً وتخصيصاً، اعتماداً على تحليل السلوك الرقمي، وأنماط التفاعل، ونقاط الهشاشة النفسية والاجتماعية. وبدل الرسائل العامة الصاخبة، بات التطرف يميل إلى التجنيد الصامت التدريجي، القائم على محتوى موجّه بدقة ثقافية ونفسية، يُقدَّم أحياناً في سياقات تبدو محايدة أو إنسانية.

في هذا النموذج، لا يُستدرج الفرد إلى التطرف دفعة واحدة، بل عبر مسار معرفي متدرج يعيد تشكيل تصوره للهوية والواقع والآخر.

وتتضاعف خطورة هذا التحول مع انتشار تقنيات التزييف العميق، التي أسهمت في تقويض الثقة بوصفها إحدى ركائز الاستقرار الاجتماعي، فعندما تصبح الصورة قابلة للتلفيق، والصوت للاستنساخ، والحقيقة موضع شك دائم، تدخل المجتمعات حالة من الارتباك المعرفي.

في مثل هذه البيئات، تجد التيارات المتطرفة فرصة لتقويض الثقة بالمؤسسات، وتأجيج الاستقطاب، وإضعاف المعايير التي تمكّن المجتمع من التمييز بين الصدق والزيف، دون حاجة إلى خطاب تحريضي مباشر.

استراتيجياً، الأخطر من استخدام الذكاء الاصطناعي في الدعاية هو توظيفه كوسيلة تفكير وتخطيط، فالتحليل الآلي للبيانات المفتوحة، ورصد اتجاهات النقاش العام، وقياس الاستجابة العاطفية للمحتوى، يسمح لهذه التيارات بتقييم أثر خطابها وتعديله في الزمن الحقيقي.

وبهذا يتحول التطرف من فعل أيديولوجي جامد إلى كيان تعلمي متطور مع مختلف البيئات، يستعير منطق التسويق الرقمي التدريجي، والخوارزميات الرقمية، ويعيد توظيفه لخدمة سرديات إقصائية وعنيفة قادرة على التكيّف السريع مع السياقات المختلفة.

في مواجهة هذا الواقع، تبدو الاستراتيجيات التقليدية، القائمة على الحظر أو رد الفعل المتأخر، غير كافية، فالتحدي لم يعد مجرد محتوى متطرف يمكن إزالته، بل منظومة تأثير تنتج خطابها وتختبره وتطوّره باستمرار، ومن ثم، تقتضي المواجهة الفعالة مقاربة متعددة المستويات، أمنية، فكرية، اجتماعية، نفسية، تقوم على الاستباق لا الاكتفاء بردّ الفعل.

تقنياً، يبرز دور الذكاء الاصطناعي ذاته في الكشف المبكر عن أنماط التطرف، عبر تحليل السياق، والبنية السردية، والشبكات التفاعلية، إلى جانب تطوير أدوات كشف التزييف العميق والتحقق الرقمي. ومؤسسياً، تبرز الحاجة إلى أطر حوكمة واضحة تضبط استخدام النماذج عالية الخطورة، وتعزز الشفافية الخوارزمية، وتحمّل المنصات الرقمية مسؤولية متوازنة تحمي الأمن والاستقرار عبر أدوات التأثير الحديثة.

غير أن البعد الأعمق يظل فكرياً واستراتيجياً؛ فالتطرف، مهما بلغت أدواته تطوراً، يبقى في جوهره أزمة فكر وهوية وشعوراً بالإقصاء، لذلك لا تكفي المواجهة الأحادية وحدها، بل يتطلب الأمر مواجهة شاملة مبنية على خطاب مضاد رصين وذكي، يستفيد من الأدوات الرقمية ذاتها، ويقدّم سرديات بديلة تعالج جذور الإقصاء، وتستعيد الثقة، وتفتح أفقاً إنسانياً جامعاً، خاصة لدى الأجيال الناشئة.

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد ساحة جديدة للصراع مع التطرف، بل عامل يعيد تعريف هذا الصراع، ومن يدرك أن المعركة اليوم هي معركة على الفكر، والهوية، والبيانات، والثقة، سيكون الأقدر على تحويل هذه التقنية إلى ركيزة استراتيجية لحماية المجتمعات وتعزيز استقرارها وتنميتها.