في اللحظة التي تتقدّم فيها الأمم بثبات نحو مستقبلها، تدرك القيادات الحكيمة أن المسير لا يكتمل من دون أن تكون الحكاية التي تأسست عليها الدولة واضحة، دقيقة، ومتّسقة، تُروى للأجيال كما هي، بلا تحريف أو اجتزاء أو مبالغة.
من هنا تأتي أهمية القرار الذي أصدره سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الدولة، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس ديوان الرئاسة، بتشكيل «اللجنة الوطنية لسردية الاتحاد»، لتكون المرجعية الوحيدة المخوّلة رسمياً بتوثيق سردية قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وضمان اتساق المحتوى الوطني والإعلامي والتعليمي مع مضامين هذه السردية.
هذا القرار ليس إجراءً إدارياً عابراً، ولا خطوة اعتيادية في بنية الأجهزة الحكومية، بل هو قرارٌ استراتيجي يعبّر عن وعي عميق بأهمية السرد الوطني في بناء الهوية، وتعزيز الانتماء.
وترسيخ صورة الإمارات، كما أرادها مؤسسوها، دولة اتسقت فيها الإرادة مع الرؤية، وامتزجت فيها قيم الاتحاد مع حكمة القادة الذين حملوا المشروع من فكرة إلى دولةٍ تُشكّل اليوم نموذجاً عالمياً في التعايش والتنمية والنهضة.
لعل أبرز ما يجعل تشكيل هذه اللجنة ضرورة وطنية، هو أنّ سردية قيام الاتحاد، على عظمتها، ليست مجرد قصة تُروى، بل هي إطارٌ تتكون فيه صورة الدولة في وعي أبنائها، وفي نظرة العالم إليها. السردية الوطنية ليست حدثاً ماضياً فحسب، بل هي ركيزة لصياغة المستقبل.
وعندما تتعدد الروايات، أو تختلف المصطلحات، أو تتباين المقاربات في الكتب والمناهج التعليمية والبرامج الوثائقية والتغطيات الإعلامية، تتعرض الهوية لخطر التشويش، ويضيع ذلك الخيط الذهبي الذي يربط الأجيال بجذور الحلم الذي تأسست عليه الدولة.
الإمارات، منذ قيامها، أولت عناية استثنائية بتاريخها. فقد كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، يدرك أن الاتحاد ليس مجرد اتفاق سياسي، بل هو مشروع حضاري يحتاج إلى ذاكرة جمعية تحفظ لحظاته، وتوثق مسيرته، وتحمي رموزه. واليوم.
يأتي القرار ليُعيد التأكيد على هذه الرؤية من خلال تحديد جهة واحدة تتولى ضبط السردية المعتمدة، وتوحيد المصطلحات، واعتماد الحملات الوطنية، ومراجعة المحتوى قبل نشره، بما يضمن أن يظل الخطاب المتعلق بقيام الاتحاد قائماً على الدقة، والمصداقية، والاتساق.
إن التحديات التي تواجه العالم اليوم، من انتشار المعلومات الخاطئة، إلى سهولة تداول السرديات المضللة عبر المنصات الرقمية، تجعل من الضروري وجود جهة رسمية تضع المعايير، وتُصدر الوثيقة التاريخية المعتمدة، وتضمن اتساق ما يُنشر مع ما هو ثابت وموثق.
فالدول التي لا تمتلك سرديتها الرسمية تُترك روايتها لغيرها، وتصبح حكايتها عرضة للتأويل والتحريف. أما الدول التي تدرك قيمة تاريخها، فإنها تحميه بالمؤسسات، وتحتضنه بالقرارات، وتبنيه بالحجج والوثائق، لا بالانطباعات والذاكرات الشفوية وحدها.
إنّ توحيد السردية الوطنية ليس هدفاً شكلياً، بل هو ضرورة استراتيجية لتعزيز الثقة، وترسيخ الانتماء، وضمان أن تبقى قصة الإمارات واحدة مهما تعددت المنابر والرواة.
فالمحتوى الذي يُقدّم في الإعلام، ويُدرّس في المدارس، ويُنشر في الكتب، يجب أن يستند إلى وثيقة مرجعية معتمدة، حتى لا يدخل تاريخ الاتحاد في منطقة الاجتهاد غير المنضبط، أو التأويل غير المستند إلى دليل.
ولعلّ من أهم عناصر هذا القرار أنه يربط الماضي بالمستقبل، فلا يكتفي بتوثيق ما جرى، بل يضع آلية للمراجعة والتحديث المستمر وفق المستجدات البحثية والوثائقية، مع الحفاظ على الثوابت الجوهرية.
هذه الرؤية الديناميكية تجعل السردية الوطنية حية، متطورة، وقادرة على التفاعل مع الأجيال الجديدة التي تحتاج إلى لغة وأدوات معاصرة لفهم تاريخ بلادها.
إن تشكيل «اللجنة الوطنية لسردية الاتحاد» خطوة تعزز مكانة الإمارات دولة راسخة تعرف قيمة تاريخها، وتعي أهمية هويتها، وتدرك أن المستقبل لا يُبنى بالإنجازات وحدها، بل بالذاكرة أيضاً.
ففي تاريخ الاتحاد ما يستحق أن يُروى بكامل الدقة والجمال، وفي سرديته ما يستحق أن تحفظه الأجيال كما هو، قصة إرادةٍ انتصرت، وحكمةٍ تأسست عليها دولة أصبحت اليوم نموذجاً عالمياً يحتذى به.
هذه اللجنة ليست مجرد إطار تنظيمي، بل عهد جديد في صون التاريخ الوطني، وضمان أن تُروى قصة الاتحاد كما يجب أن تُروى؛ رواية واحدة، موثقة، صادقة، تليق بالإمارات، وبالقائد الذي وضع حجرها الأول، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه المؤسسين، عليهم رحمة الله.