الناخب الياباني وحساسية المال السياسي

لليابان تاريخ حافل من فضائح التمويل السياسي، ومنها فضيحة لوكهيد سنة 1976، وفضيحة ريكروت سنة 1988، وفضيحة طوكيو ساجاوا إكسبريس عام 1992.

وعلى خلفية هذه الفضائح، فقد الحزب الليبرالي الديمقراطي السلطة في عام 1993، للمرة الأولى منذ تأسيسه في عام 1955، لصالح حكومة ائتلافية برئاسة «موريهيراهوسوكاوا»، وهي الحكومة التي قامت بتعديل قانون مراقبة الصناديق السياسية، ما أدى إلى تشديد حدود التبرعات ومتطلبات الإبلاغ.

غير أن كل هذه الإجراءات لم تمنع تورط الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في فضائح مالية في عامي 2023 و2024، ما أثار مخاوف بشأن غموض النظام، وعدم فهم الساسة وموظفيهم للقواعد والاشتراطات والضوابط المطلوبة لتلقي التبرعات، وبيان مصادرها وأوجه استخدامها. وهكذا، فإن هذه المسائل باتت بالغة الأهمية للحزب الحاكم، من أجل أن يستعيد شعبيته وثقة الناخبين المفقودة.

الآن، وقد أنهت رئيس الحكومة اليابانية «ساناي تكائيتشي»، حربها للوصول إلى زعامة بلادها، وتمكنت من إيجاد حليف لحزبها الحاكم، يؤمّن لها الأغلبية البرلمانية المفتقدة، فإن أنظارها يجب أن تتجه لمعالجة أسباب تدهور شعبية «الحزب الليبرالي الديمقراطي» الحاكم في السنوات الأخيرة.

ذلك التدهور الذي أدى بدوره إلى بروز نوع من عدم الاستقرار السياسي، بدليل أن اليابان شهدت تغير ثلاث حكومات خلال خمس سنوات.

وبطبيعة الحال، فإن تكائيتشي تعرف الداء ومواطن العلة، وربما لديها وصفات علاجية، لكنها تبدو حذرة في إجراء العملية الجراحية المطلوبة، وتضع نصب عينيها حادثة اغتيال معلمها، رئيس الحكومة الأسبق «شينزو أبي»، في يوليو 2022، التي كشفت عن «فضيحة أموال ورِشى»، وبالتالي، بروز حالة من عدم الرضاء والثقة بالحزب الحاكم في أوساط الجماهير اليابانية.

وبعبارة أخرى، شكّل اغتيال آبي صدمة وطنية كبيرة للجميع، لكن التحقيقات التي تلت الجريمة، كشفت عن أن العديد من أعضاء الحزب الحاكم تلقوا تبرعات كبيرة لحملاتهم الانتخابية على مستوى المحافظات، من «كنيسة التوحيد»، إبان الانتخابات العامة في عام 2021.

ولهذا سارع رئيس الوزراء الأسبق «فوميو كيشيدا»، إلى إصدار أوامره إلى جميع أعضاء الحزب الليبرالي الديمقراطي، بقطع علاقاتهم وارتباطاتهم مع كنيسة التوحيد، ليظهر أثر ذلك واضحاً في الانتخابات العامة لسنة 2024، في صورة فقدان العديد من أعضاء الحزب الحاكم لمقاعدهم البرلمانية، بسبب انقطاع التمويل عنهم من قبل الكنيسة المذكورة.

إلى ذلك، أمر كيشيدا بإغلاق جميع فروع كنيسة التوحيد، بعد أن تبين من التحقيقات أن دوافع قاتل شينزو آبي، كانت غضبه من ارتباط زعيم البلاد بتلك الجماعة الكنسية التي يبغضها.

وعلى الرغم من أن نحو 72 في المئة من اليابانيين لا يدينون بأي معتقد، والبقية موزعة على ديانة الشنتو والديانة البوذية، فإن «كنيسة التوحيد» (منظمة دينية أسسها الكوري الجنوبي «سونغ ميونغ مو»، بعد طرده من الكنيسة البروتستانية)، لعبت منذ خمسينيات القرن الماضي دوراً مهماً في الحياة السياسية اليابانية، من خلال التبرع للساسة، وتمويل أنشطتهم الدعائية في أوقات الانتخابات.

وبسبب رسوخ أقدامها، وتعدد أنشطتها، وتودد الساسة إليها، لم تشأ أي جهة حتى الآن إلى إدانتها رسمياً. وهناك شكوك حول قدرة تكائيتشي على مواجهتها، خصوصاً إذا ما علمنا أن تكائيتشي نفسها ووزير دفاعها الشاب «شينجيرو كويزومي»، متهمان بتلقي أموال وتبرعات بقيمة نصف مليون دولار، من جهات عدة، للإنفاق على حملاتهما الانتخابية العام الماضي.

وبطبيعة الحال، فإن النصف مليون دولار يبدو مبلغاً تافهاً، بالمقارنة مع ما ينفق في الحملات الانتخابية الأمريكية مثلاً، لكن الناخب الياباني بات شديد الحساسية تجاه تبرعات الشركات والمنظمات للسياسيين، بسبب ما علق بذهنه من فضائح تاريخية متكررة.

طبقاً للعديد من تقارير التمويل الخاصة بتكائيتشي، فإن الأخيرة أنفقت ما يقارب المئة مليون ين على الدعاية قبل وأثناء انتخابات 2024، التي لم تفز بها، لكنها مهدت السبيل أمامها لبلوغ القمة.

والغريب هنا، أن سباق الفوز بقيادة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، لا يخضع لقانون انتخابات المناصب العامة، وهذا يعني عدم وجود حدود للإنفاق، أو قواعد إلزامية للإبلاغ.

صحيح أن الحزب الحاكم يحظر الأنشطة المكلفة، مثل إرسال وثائق العلاقات العامة، أو استخدام المكالمات الهاتفية الآلية، إلا أن المخالفات لا تفرض عليها أي عقوبات، وهذا يسهم في استمرار الدعاية المكثفة على وسائل التواصل دون رادع.

والجدير بالذكر في السياق نفسه، أن شريك الحزب الليبرالي الديمقراطي في الائتلاف الحاكم الحالي، وهو حزب «نيبون إيشين نو كاي» (حزب الابتكار الياباني)، أدرج في اتفاقية ائتلافه مع الليبرالي الديمقراطي، حظر مساهمات وتمويلات الشركات للأحزاب والساسة، وإنْ كان ذلك دون جدول زمني واضح.