إبراهيم عبدالله العنقري.. نصف قرن في خدمة وطنه

ارتبط اسمه بعهد الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمة الله عليه، منذ أن كان الملك فهد بن عبدالعزيز وزيراً للمعارف السعودية في خمسينيات القرن العشرين، ثم رافقه حين أصبح ولياً للعهد ونائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية فملكاً، وذلك حتى وفاة الملك فهد بن عبدالعزيز سنة 2005. إنه الشيخ إبراهيم العنقري، الذي عاصر خلال أكثر من نصف قرن من عمره، عهوداً ستة من عهود ملوك السعودية، ابتداء من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، وانتهاء بالملك عبدالله بن عبدالعزيز، وعمل في ظل خمسة منهم مدير مكتب ودبلوماسياً ووكيل وزارة فوزيراً فمستشاراً إلى أن انتقل إلى جوار ربه بمدينة جنيف السويسرية في 14 يناير 2008، مختتماً بذلك مسيرة ناصعة في خدمة وطنه، كان خلالها شعلة من النشاط، ونموذجاً للنبل والوفاء، وعلامة فارقة في التاريخ السعودي الحديث، ورمزاً من رموز مدرسة الملك فهد بن عبدالعزيز السياسية والإدارية، وشاهداً على الكثير من الأحداث المفصلية الداخلية والخارجية.

بعد وفاته قام ابنه البكر مازن بإصدار كتاب على نفته من إعداد عبدالمحسن الماضي، مستهدفاً توثيق سيرة والده وتخليد اسمه وعطاءاته. وسنعتمد على هذا الكتاب الأنيق، الذي يحمل عنوان «رجل الدولة الشيخ إبراهيم العنقري» في سرد حكايته منذ نشأته وحتى رحيله، مستعينين في الوقت نفسه بمصادر صحفية وغير صحفية، للحصول على معلومات إضافية.

كتب عنه محمد أحمد الشدي، رئيس تحرير مجلة اليمامة السعودية في الفترة ما بين عامي 1986 و1997، من خلال مقال نشره بصحيفة الجزيرة (29/1/2008) فقال: «عملت بالقرب منه رئيساً لتحرير اليمامة فترة عقد من الزمان، ومر علينا وبلادنا الكثير من الأحداث المهمة الداخلية والخارجية، وكان رجلاً ثابتاً عاقلاً ليس له أي هدف إلا خدمة وطنه وصداقة أهل وطنه دون تفريق من هو! ومن أين هو، يحترم الجميع، ولا يجرح أحداً بقول أو بفعل. يحارب الشللية ولا يحب (الغمغمة)، وله أسلوب واضح وصارم في العمل. رجل دولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وهو يشبه عدداً من رعيل الوزراء، الذين سبقوه أو زاملوه من أمثال أصحاب المعالي عبدالله بن عدوان، ومحمد عمر توفيق، وحسن آل الشيخ، وعبدالوهاب عبدالواسع، ومحمد أبا الخيل، وغيرهم ممن يتصفون بصفات رجل الدولة في صمته وسمته».

وأشاد به الدكتور محمد عبده يماني، الذي خلفه في منصب وزير الإعلام، قائلا: «كان يحرص على احترام الناس وعدم الإساءة إلى أحد، ولديه قدرة على احتواء الآخرين مع هدوء ورباطة جأش، وقد شهد له الديوان الملكي بأنه من الرجال الذين خدموا بتفانٍ وإخلاص. وأتذكر ذلك اليوم الذي استلمت منه وزارة الإعلام، فقد كان رقيقاً معي وهو يطمئنني إلى أنه سيكون معي دائماً، فأوفى بوعده، رحمه الله».

ونعاه صديقه وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء الدكتور عبدالعزيز الخويطر، الذي عرفه زمن صباهما بمصيف الطائف، فقال ما مفاده أن الكثيرين ممن عملوا معه في وزارات المعارف والداخلية والعمل والشئون الاجتماعية والإعلام يذكرونه بخير، ولا ينسون حسن معاملته، وما تركه في وزارات الخدمات من جودة في الإدارة وحسن تنظيم.

ولد إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم بن عثمان آل فوزان العنقري سنة 1929 في ثرمداء بجنوب منطقة الوشم بنجد، والتي تولت أسرة العنقري إمارتها لعدة قرون، علماً بأن العناقر أسرة عربية شهيرة، تنتمي إلى بني سعد بن زيد مناة بن تميم. تَيتم العنقري بفقد والده وهو في سن الثانية، فنشأ مع أخوته الأربعة في كنف والدته نورة بنت سليمان السويدان، في ظل ظروف معيشية بالغة القسوة، وقد ساعدها في رعاية أبنائها أخوها عبدالرحمن السويدان.

ألحقته والدته بالكتاتيب التقليدية في ثرمداء، ليتعلم القرآن والحساب والقراءة والكتابة، لكنه انتقل مع أسرته إلى الطائف في سن السابعة بعدما أرسل الشيخ محمد بن عبدالمحسن بن عثمان العنقري (زوج أخته هيلة) في طلبهم حينما استقر به المقام في الطائف جابياً للزكاة زمن الملك عبدالعزيز آل سعود. وبسبب عمله كان الشيخ محمد العنقري يتنقل ما بين مدن الحجاز، فكان إبراهيم العنقري وأسرته يتنقلون معه على ظهور الجمال، ولعل هذا، علاوة على ظروف المعيشة الصعبة وقلة الموارد والرزق آنذاك، لم يسمح لإبراهيم العنقري الانتظام في الدراسة، وجعله ينتقل من مدرسة إلى أخرى، فمثلاً أكمل دراسته الابتدائية في الطائف ثم انقطع عن الدراسة لبعض الوقت كي يعمل ويؤمن لأسرته بعض المال، فعمل كاتباً في مكتب الأمير عبدالله الفيصل، بسبب خطه الجميل، ثم واصل دراسته المتوسطة بالطائف وأنهاها بنجاح، ما جعله يزداد طموحاً وتطلعاً إلى مستقبل باهر، وهكذا نراه يسافر إلى مكة للالتحاق بمدرسة تحضير البعثات، وينهي مقرراتها ويتخرج فيها بنجاح، ويُبتعث مع عدد من زملائه إلى مصر للدراسة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) في عام 1949.

كان العنقري عاشقاً للشعر والأدب، فالتحق في مصر بكلية الآداب لدراسة اللغة العربية وآدابها، ودرس بجد وعزيمة على أيدي فطاحلة الأدب المصريين مثل طه حسين وأحمد أمين ولطفي الخولي وسهير القلماوي، وتخرج في سبتمبر 1953، من بعد حياة دراسية واجتماعية حافلة بالأنشطة الثقافية المتنوعة، التي صقلت شخصيته وتكوينه الثقافي، ومن الأشياء التي مارسها في سنواته القاهرية مع عدد من زملائه ومواطنيه المبتعثين المساهمة في تحرير «مجلة اليمامة» السعودية في بداية ظهورها في القاهرة سنة 1953 على يد مالكها ومؤسسها العلامة الشيخ حمد الجاسر، الذي يمت له بصلة قرابة، إذ راح يكتب فيها سلسلة من المقالات التي عكست حلاوة وطراوة قلمه، هذا علماً بأنه انتظم لاحقاً في كتابة عمود أسبوعي بعنوان «في المرآة» في جريدة «البلاد السعودية». كان العنقري أبان دراسته في القاهرة يسكن في غرفة واحدة بدار البعثات السعودية مع زميله (الوزير والمستشار لاحقا) الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وينفق جلّ نقوده على شراء الكتب، ولا يمر يوم دون قراءته لكتاب، الأمر الذي أمده بثقافة حرة واسعة خارج نطاق المقرر الجامعي، وجعله متذوقا للأدب الرفيع والشعر الجميل، وملاحقا لإبداعات كبار الشعراء والكتاب والمفكرين السعوديين والعرب.

بعد عودته من رحلته الجامعية بمصر، بدأت مسيرته الطويلة مع العمل الحكومي التي قادته للعمل أولا مساعدا لمدير مكتب وزير المعارف، ثم مدير للمكتب، وكان الوزير وقتها هو الأمير (الملك) فهد بن عبدالعزيز، وكانت وزارته حديث وناشئة ومقرها مكة المكرمة ومكلفة بعملية النهوض بالتعليم العام للبنين، مقررات ومقار ومدرسين وميزانيات، فعمل ضمن الجهاز الإداري المكلف بكل هذه الأعباء. ويتذكر العنقري أنه أثناء عمله في المعارف زار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية مكتبه فوجده يتصبب عرقا بسبب حرارة الجو، فأشفق عليه وأرسل له مروحة كهربائية، فصار زملاءه في المكاتب الأخرى يترددون عليه بكثافة من أجل الاستمتاع بهواء المروحة.

ومن وزارة المعارف انتقل إلى وزارة الخارجية في مطلع الستينات للعمل مديرا لإدارة المراسم، وذلك بطلب من وزير الخارجية آنذاك الشيخ إبراهيم السويل، من أجل الإستفادة من خبراته الإدارية وعلمه. وأثناء عمله في الخارجية شارك في لجان تنظيمية مهمة، أو ترأسها، ومثل بلاده في عدد من المؤتمرات الإقليمية والدولية، وكان عضوا في الوفد السعودي إلى اجتماعات هيئة الأمم المتحدة بنيويورك في دورتها السادسة عشرة، وبعد ذلك عمل مستشارا في السفارة السعودية بواشنطن، فانتهز الفرصة لإكمال تعليمه العالي، حيث درس اللغة الانجليزية والعلاقات الانسانية في كل من جامعة كولومبيا بنيويورك، وجامعة فلوريدا بميامي.

محطته التالية كانت وزارة الداخلية التي تسلمها الأمير (الملك) فهد بن عبدالعزيز لأول مرة سنة 1962 بعد التشكيل الوزاري الأخير في عهد الملك الملك سعود بن عبدالعزيز. كان الملك فهد بن عبدالعزيز، وقتذاك يتطلع إلى إحداث نقلة نوعية في أجهزة الداخلية، وبالتالي كان بحاجة إلى كفاءة وطنية مشهود لها بالاخلاص والنزاهة والمثابرة والخبرة، فوجد مبتغاه في العنقري الذي عرفه زمن عمله مديرا لمكتبه بوزارة المعارف، فطلب نقله من الخارجية إلى الداخلية، وتعيينه وكيلا لوزارة الداخلية. وهكذا، تضاعفت مسؤوليات العنقري وصارت أكثر حساسية، خصوصا وأن الداخلية كانت مسؤولة آنذاك عن قطاعات عديدة بينها الشؤون البلدية. وكعادته أبلى بلاء حسنا في كل المهام الموكلة إليه فارتفع شأنه ورصيده عند أولياء الأمر. ومن بين المهام التي تولاها آنذاك رئاسة لجنة الضباط، ولجنة الترشيح لمنح الجنسية ورئاسة لجنة صحة البيئة.

في عام 1970 أصدر الملك فيصل بن عبدالعزيز أمرا ملكيا بتعيينه وزيرا للإعلام، فدخل تاريخ بلاده كثاني وزير يحمل حقيبة الإعلام من بعد الشيخ جميل الحجيلان، واستمر يشغل هذا المنصب حتى 1975 حينما خلفه الدكتور محمد عبده يماني في التشكيل الوزاري الأول في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز. وإبان عمله وزيرا للإعلام حافظ على عضويته في اللجنة العليا لسياسة التعليم وفي اللجنة العليا لرعاية الشباب. يروي محمد الشدي في مجلة اليمامة (مصدر سابق) أن العنقري قال له بعد تعيينه وزيرا للإعلام «والله يا أخي محمد انني آخر رجل يصلح للإعلام، فأنا نادر الحديث أو التحدث»، كما روى الشدي أن صحفيين كثرا ممن لا يعرفونه عن قرب خافوا من شخصيته القوية، عندما علموا بقرار تعيينه، لكنهم غيروا رأيهم سريعا بعد أن اقتربوا منه، إذ وجدوه ودودا ومتواصلا معهم ويقابلهم بابتسامة مريحة ويخاطبهم بلهجة قروية محببة. ومما يجدر بنا الإشارة إليه في السياق نفسه أن سنوات قيادته لوزارة الإعلام السعودية شهدت انجازات عديدة مثل انعاش جهاز الاعلام عبر استقطاب إعلاميين جدد متمكنين، وتأسيس وكالة الانباء السعودية، وتدشين إذاعتي القرآن الكريم من الرياض وجدة، وتطوير السياسة الإعلامية وأدواتها بحيث تؤدي دورا ايجابيا في الداخل والخارج وتتعاطى بحرفية مع الإعلام العالمي، وإصدار أول صحيفة سياسية سعودية ناطقة بالانجليزية (أراب نيوز)، واستحداث خدمة البث الملون في التلفزيون السعودي.

من محطات العنقري الوظيفية الأخرى، تعيينه في عام 1975 وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية خلفا لصديقه وزميل دراسته الجامعية بمصر الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل، فاستكمل ما بدأه أبا الخيل من تطوير في مجالات العمل والعمال والضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية والجمعيات الخيرية والتعاونية، والتعليمين الفني والمهني، وأضاف إليها الكثير. وظل الرجل محتفظا بمنصبه هذا حتى عام 1983، حينما أصدر الملك فهد بن عبدالعزيز مرسوما بتعيينه وزيرا للشؤون البلدية والقروية خلفا للأمير متعب بن عبدالعزيز. وهنا كان العنقري أمام تحد جديد ومختلف، خصوصا وأن السعودية كانت في تلك الفترة تمر بثورة تنموية في مجالات الإسكان والتعمير والخدمات البلدية وبناء الطرق والانفاق وتوسعة الحرمين الشريفين والتخطيط العمراني الحضري والقروي.

قبل صاحبنا التحدي وواصل العمل بنجاح وفق توجيهات ولاة الأمر متحملا عبء وزارته وأعباء عضويته في المجلس الأعلى لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران، والمجلس الأعلى للدفاع المدني، وأعباء رئاسته في الوقت نفسه للمعهد العربي لإنماء المدن، ومدشنا لأول مرة فكرة تعيين مهندسين سعوديين أكفاء لرئاسة بلديات المدن. وظل كذلك إلى عام 1989 حينما صدر أمر ملكي بتعيينه مستشارا بالديوان الملكي. وقد استمر العنقري يعمل كعادته بجهد ونشاط في منصبه الإستشاري الأخير، والذي تخللته تكليفات سياسية من القيادة السعودية بنقل وجهات نظرها إلى العديد من قادة الدول الشقيقة والصديقة، وكذلك مشاركات ثرية في اللجنة العليا لصياغة «النظام الأساسي للحكم» و«نظام مجلس الشورى» و«نظام المناطق»، وفي عام 2006 شعر أن العمل المتواصل على مدى أربعين عاما قد استهلك صحته وجسده وعمره، وأنه بحاجة ماسة للراحة لعله يعوض بعض ما أهمله لجهة علاقته مع أسرته وأولاده وأصدقاء عمره، فطلب إعفاءه من مسؤولياته، وأستجاب خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لطلبه.

وأخيرا فإن العنقري لم يكف عن العمل الخيري طوال سنوات خدمته، فقد كان يتواصل مع سفراء السعودية المعتمدين في الخارج للقيام ببعض الأعمال الخيرية مثل بناء المساجد ومدارس تعليم اللغة العربية وشراء قطع من الأراضي من أجل تخصيصها كمقابر للمسلمين في الدول غير الاسلامية. ومن أمثلة ذلك تخصيص مقبرة للمسلمين في جنوب أسبانيا، وبناء مساجد في اندونيسيا، وترميم المسجد التاريخي في موسكو، وغير ذلك. وعلى المنوال نفسه سارت ذريته، الذين قاموا، بعد وفاته، بتأسيس «مؤسسة إبراهيم بن عبدالله العنقري وذريته الخيرية» لمد يد العون للمحتاجين.