إذا سلمنا جدلاً بأن الأفكار لا تُولد لتبقى كما هي، ولا تُمنح الخلود بمجرد شيوعها، فلكل فكرة دورة حياة غير مرئية، تبدأ كاختلال في السكون، ثم تتحول إلى يقين، ثم إلى عادة، ثم إلى عبء ثقيل على الوعي، وأخطر ما يصيب الفكرة ليس أن تُواجَه بالرفض، بل أن تُستهلك بلا مقاومة، وحين تفقد قدرتها على إرباك الرتم، وتتحول من طاقة تُقلِق إلى روتين مريح، هنا تكون قد دخلت في طور الشيخوخة، وفي هذه المرحلة لا تموت الفكرة، لكنها تفقد سلطة التغيير المنشودة.
وفي كتابه «كيف تمسك بزمام القوة» يضع روبرت غرين يده على قانون حاسم وهو «كل ما يُعاد استخدامه بالطريقة نفسها يفقد قيمته الاستراتيجية»، فالقوة في تصوّره ليست ملكية ثابتة، بل إدارة ذكية للزمن وفهم التحول وأبعاده، والفكرة التي لا تختبر حدودها مع الواقع المتغير، تتحول من قوة تفسير إلى تحدٍ فكري.
في بداياتها، تولد الفكرة عادة كخلخلة، شيء غير متوقع يربك اليقين السائد، ويجبر العقول على إعادة التموضع، وفي هذه اللحظة تعيش الفكرة في أعلى طاقتها الحيوية، متمرّدة وغير مروّضة ومُربكة بما يكفي لفرض حضورها، غير أن التكرار الآلي والاستنساخ وتحويلها إلى قالب جاهز، ينقلها تدريجياً إلى مرحلة الاستقرار الرتيب، ليتم استهلاكها بوصفها حقائق مكتملة.
وشيخوخة الأفكار لا تعني أفولها، بل دخولها منطقة الأمان، وهنا تكمن المعضلة، ففي صناعة الرأي العام الثقافي على سبيل المثال، لا تُقاس قوة الفكرة بعمقها بل بسرعة انتشارها، فما يُعاد تكراره أكثر، يكتسب شرعية وهمية، وهكذا تتحول الثقافة من مساحة اختبار للأسئلة إلى سوق لتبادل المسلّمات، ويصبح الرأي العام نتاجاً للتراكم، ويُدار الوعي بمنطق الإشباع السريع لا بمنطق التكوين البطيء.
ما يلتقطه غرين بوضوح هو أن السلطة لا تكمن داخل الفكرة بذاتها، بل في صياغتها وتوقيتها وقدرتها على إعادة التخفي داخل سياقات جديدة، وحين تفقد هذه العناصر، تتحول الفكرة من أداة سيطرة إلى نقطة ضعف مكشوفة، والمفارقة أن أكثر من يتمسك بـ«الأفكار العجوز» هم أولئك الذين صعدوا بها يوماً إلى مواقع متقدمة، فالنجاح الأول يتحول إلى مرجعية ثابتة..!
ويستحضر روبرت غرين قصة نيكولا فوكيه بوصفها مثالاً مكتملاً على سقوط التصوّر القديم للهيمنة، إذ لم يكن فوكيه مجرّد وزير مالية في بلاط لويس الرابع عشر، بل كان يطمح صراحة إلى أن يصبح الرجل الأول في الدولة، وخلفاً لرئيس الوزراء، وهذا الطموح لم يكن سرياً، وكانت أدواته هي ذاتها أدوات الهيمنة القديمة المتمثلة في المظاهر والبذخ والتبذير، حيث شَيَّد فوكيه قصره الأسطوري، وراح يحيط نفسه بكل ما يراكم الرهبة البصرية، الاحتفالات والفنون والإبهار المتواصل، غير أن هذا الفكر كان ينتمي إلى زمن سبق زمن الملك نفسه، ففي دولة كانت تنتقل بهدوء إلى مركزية مطلقة للسلطة، لم يعد مسموحاً لوزير أن يبدو أكبر من موقعه، وبعد يوم واحد فقط من تلك الدعوة الأسطورية، أصدر الملك أمره إلى قائد حرسه دارتانيان بإلقاء القبض على فوكيه، ووُجّهت إليه تهمة الاختلاس، ونُقل بعدها إلى أكثر سجون فرنسا عزلة، وقضى ما يقارب عشرين عاماً في الحبس الانفرادي، بعيداً عن العالم الذي كان يظن أن مظاهره كفيلة بحمايته، ليفنى وحيداً في معتقل فكرة شاخت وأفنَتهُ معها.
هذا المثال يدفعنا إلى يقين أعمق، بأن الأفكار مثل الكائنات الحية، لا تعيش خارج شروط بيئتها، ولا تحتفظ بفاعليتها دون تعديل مستمر، وأحياناً دون أن تُمنحَ حق الانسحاب الكريم، فالإبقاء على فكرة بعد انتهاء صلاحيتها ليس تكريماً لها ولا وفاءً لتاريخها، بل تجميد ذهني يعطّل ولادة ما هو أدق، وأكثر اتصالاً بالواقع.
وليست المأساة في أن تشيخ الأفكار، فذلك قانون الحياة، بل في أن نُصِرّ على العيش داخلها بعد أن ينتهي زمنها، فأخطر ما تفعله الفكرة حين تشيخ أنها لا تنهار بصوتٍ عالٍ، بل تواصل إدارة وعينا بهدوء، وتعيد تشكيل اختياراتنا بذات الأدوات التي فقدت قدرتها على التغيير، وعند هذه النقطة تحديداً يصبح التمسك بالفكرة شكلاً من أشكال العمى الزمني، إذ نُبقيها في مركز التفسير بعد أن فقدت موقعها في بُنية الفعل.