خريطة طريق لريادة الإمارات في الصحة 2035 (8 - 15)

التعليم الطبي والبحث العلمي... بناء جيل يقود مستقبل الصحة في الإمارات

الطبيب ليس مجرد شهادة ومسمّى وظيفي... بل هو استثمار دولة في عقل وإنسان وضمير

وأي حديث عن ريادة الإمارات الصحية بحلول 2035 لا يكتمل من دون التوقف عند التعليم الطبي والبحث العلمي، بوصفهما الجسر الحقيقي بين رؤية القيادة وواقع المستشفيات والعيادات.

في دولة الإمارات، وبتوجيهات القيادة الرشيدة، أصبح التعليم الطبي مشروعاً استراتيجياً، لا هدفه تخريج أطباء فحسب، بل بناء جيل من القادة العلميين القادرين على ابتكار حلول صحية جديدة، لا مجرد تطبيق بروتوكولات قديمة.

أولاً: كليات الطب... من بناء الأعداد إلى صناعة النوعية

شهدت السنوات الأخيرة توسعاً ملحوظاً في منظومة كليات الطب والعلوم الصحية في الإمارات، سواء من حيث الطاقة الاستيعابية أو جودة البرامج:

• كلية الطب والعلوم الصحية في جامعة الإمارات، أقدم كليات الطب في الدولة، رفعت أعداد المقبولين من الطلبة المواطنين في السنوات الأخيرة، تماشياً مع احتياجات إمارة أبوظبي، التي تُقدر بنحو مئات الأطباء الجدد سنوياً. الكلية خرّجت على مدى عمرها مئات الأطباء الإماراتيين، الذين يشغلون اليوم مواقع قيادية واستشارية في مستشفيات الدولة.

• في دبي، أصبحت جامعة محمد بن راشد للطب والعلوم الصحية (MBRU) الذراع الأكاديمية لـ «دبي هيلث»، نموذجاً للتعليم الطبي الحديث. تشير بيانات الجامعة إلى أن لديها اليوم: 338 خريجاً (Alumni)، وأكثر من 1,160 طالباً وطالبة حالياً، وقرابة 47 برنامجاً ومبادرة تعليمية وتدريبية في مختلف التخصصات الطبية والتمريضية وعلوم الأسنان والبرامج العليا.

وهي أرقام تؤكد أن دبي لا تبني مستشفيات فقط، بل تبني مدرسة طبية متكاملة، تستقطب كفاءات من أكثر من 50 جنسية، مع تركيز خاص على الطلبة الإماراتيين.

هذا التوسع في التعليم الطبي، مع تنوّع المناهج واعتماد أحدث أساليب التعلم السريري والمحاكاة، يضع الإمارات على طريق الاكتفاء النوعي من الكوادر الطبية خلال العقدين المقبلين.

ثانياً: البحث العلمي... من التلقّي إلى إنتاج المعرفة

أدركت الدولة مبكراً أن الريادة الصحية لا تتحقق بالاستيراد فقط، بل بإنتاج المعرفة، من خلال البحث العلمي:

• في أبوظبي، يقود برنامج الجينوم الإماراتي ومراكز مثل «أوميكس للتميّز»، طفرة في الأبحاث الجينومية، التي تمهد لعصر الطب الدقيق. وقد تم تسلسل أكثر من 800 ألف جينوم حتى 2025، في واحدة من أكبر قواعد البيانات الجينومية النسبية في العالم.

• في دبي، يشكّل مركز محمد بن راشد للأبحاث الطبية، التابع لمؤسسة الجليلة، منصة وطنية للبحث في السرطان والسكري وأمراض القلب وغيرها، باستثمارات بمئات الملايين من الدراهم، مع تعاون واسع مع مراكز عالمية.

• على مستوى الجامعات، مخرجات الأبحاث في MBRU وحدها تجاوزت 1,600 بحث محكّم منذ تأسيسها، مع تنامٍ مستمر في عدد المشاريع البحثية متعددة التخصصات. بهذه الشبكة البحثية، تنتقل الإمارات من مستهلك للمعرفة إلى منتِج لها، وتضع نفسها لاعباً مهماً في خريطة الأبحاث الطبية العالمية.

ثالثاً: الابتعاث والتدريب في كندا وأمريكا... عقول إماراتية بمعايير عالمية

لا يزال الابتعاث الطبي إلى الخارج ركيزة مهمة من ركائز بناء الكفاءات:

• يرتبط عدد من الأطباء الإماراتيين ببرامج إقامة وزمالة في كندا والولايات المتحدة، في تخصصات دقيقة، مثل جراحة القلب، الأورام، العظام، الطوارئ، الأشعة، وزراعة الأعضاء.

• في المقابل، تستقبل مستشفيات مثل كليفلاند كلينك أبوظبي و«مدينة الشيخ شخبوط» و«مدينة الشيخ خليفة الطبية»، برامج تدريبية معتمدة، وفق الأنظمة الكندية والأمريكية، ما يتيح نموذجاً هجيناً، يجمع بين ميزة الابتعاث الخارجي وقوة التدريب الداخلي. بهذا النهج، لا يعود الطبيب الإماراتي مجرد متلقي تدريب، بل نقطة وصل معرفية، ينقل الخبرة العالمية إلى أرض الإمارات.

رابعاً: التدريب السريري داخل الدولة... اعتماد دولي على أرض إماراتية

خطوة نوعية تحققت عندما حصلت ثلاث منشآت رئيسة في أبوظبي على اعتماد الكلية الملكية للأطباء والجراحين في كندا، كمراكز تدريب رسمية، تشمل: مدينة الشيخ شخبوط الطبية، ومدينة الشيخ خليفة الطبية، ومستشفى توام. هذا الاعتماد يعني أن الطبيب المقيم في هذه المراكز، يمكنه الحصول على تدريب بمعايير كندية وهو داخل بلده، ما يقلل كلفة الابتعاث، ويرفع كفاءة بناء القدرات الوطنية. كما توسعت برامج الإقامة والزمالة محلياً، لتشمل عشرات التخصصات، مع ازدياد عدد الأطباء المتدربين سنوياً في مختلف مستشفيات الدولة.

خامساً: التوطين الطبي... التحدي الذي لا يمكن تجاهله

رغم كل ما تحقق، لا تزال نسبة الأطباء المواطنين أقل من الطموح، خاصة إذا قورنت بزيادة عدد المنشآت والخدمات الصحية. تقارير برلمانية سابقة، أشارت إلى: وجود فجوة بين أعداد خريجي الطب المواطنين والاحتياجات الفعلية للقطاع، وتسرب نسبة غير قليلة من الخريجين إلى مجالات أخرى، ومعوقات تتعلق بشروط القبول الصارمة، وطول المسار الدراسي والمهني، وضغط البرامج التخصصية. لكن في المقابل، أطلقت الدولة مجموعة من المبادرات لمعالجة هذه الفجوة، مثل: زيادة مقاعد الطب في الجامعات الوطنية، وبرامج حوافز للمواطنين في التخصصات الحرجة والنادرة، وتطوير برامج الإقامة المعتمدة دولياً، وشراكات مع كندا وأمريكا، لضمان مسارات مهنية واضحة وواعدة للخريجين.

سادساً: الذكاء الاصطناعي... مهارة أساسية للطبيب الإماراتي الجديد

في عالم يتغير بسرعة، لا يكفي أن يعرف الطبيب علم التشريح والأدوية، بل يجب أن يجيد لغة البيانات والذكاء الاصطناعي.

أطلقت دائرة الصحة – أبوظبي الأكاديمية العالمية للذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، والتي درّبت حتى مطلع 2025، أكثر من 3,750 مهنياً صحياً على أدوات الذكاء الاصطناعي، واستخداماتها العملية في التشخيص والتخطيط العلاجي.

بدأت كليات الطب في الدولة إدماج مفاهيم الذكاء الاصطناعي في المناهج، سواء في قراءة صور الأشعة، أو تحليل البيانات السريرية، أو استخدام المحاكاة في التدريب العملي.

هذا الاستثمار في العقول، قبل الأجهزة، هو ما سيجعل الطبيب الإماراتي قادراً على قيادة التكنولوجيا لا متلقياً لها.

سابعاً: مقارنة مع كندا وأمريكا... أين تقف الإمارات؟

في الولايات المتحدة، يُنظر إلى التعليم الطبي بوصفه أحد أقوى الأنظمة في العالم، مع عشرات آلاف الخريجين سنوياً، ومئات برامج الإقامة والزمالة. وفي كندا، ورغم جودة برامج التدريب، تعاني البلاد من نقص في عدد الأطباء، مقارنة بحجم السكان، وفق تقارير صحية رسمية. أما الإمارات، وبرغم صغر حجمها، فقد تمكنت من: بناء كليات طب معتمدة، تنافس في جودة برامجها، وتوفير تدريب سريري داخلي بمعايير كندية وأمريكية، وإرسال بعثات نوعية للخارج في تخصصات دقيقة، ودمج البحث العلمي والذكاء الاصطناعي في مسار التعليم والتدريب.

النتيجة: دولة صغيرة في عدد السكان، لكنها كبيرة في طموحها ورؤيتها وقدرتها على استقطاب وبناء الكفاءات الطبية.

تكتب الإمارات اليوم، بهدوء وثبات، فصلاً جديداً في تاريخ التعليم الطبي والبحث العلمي في المنطقة. فمن القاعات الدراسية إلى مراكز الأبحاث، ومن برامج الإقامة المعتمدة إلى زمالات كندا وأمريكا، ومن الذكاء الاصطناعي إلى الجينوم... يتحول الطبيب الإماراتي إلى قائد لمستقبل الصحة، لا مجرد مشتغل فيه. رؤية 2035 ليست شعاراً، بل مسار عمل واضح، يجعل من: الجامعة مصنعاً للعقول، والمستشفى مدرسة متجددة، والمختبر منصة للابتكار، والذكاء الاصطناعي لغة أساسية في مهنة الطب. الطبيب الذي تُعدّه الإمارات اليوم... سيقود منظومتها الصحية غداً، ويصنع لها مكاناً ثابتاً في صفوف روّاد الطب عالمياً.

المقال المقبل:

المريض أولاً – تمكين الأفراد كشركاء

في رحلة الرعاية الصحية (9 - 15)