جودة الأفكار الداخلية

توجه عامل مغمور في مطلع القرن العشرين إلى الإدارة العليا في مصنع لأعواد الثِقاب ذائع الصيت آنذاك (البجعة فيستا)، ليقترح عليهم فكرة ألحت عليه، قال إنها ستوفر عليهم ملايين الدولارات، لو أنها وجدت آذاناً مصغية، غير أنه عاد بخُفي حنين بعد تجاهله، إذ لم يصدق كبار المسؤولين في المصنع السويدي أن عاملاً مغموراً يمكنه أن يأتي بفكرة تحمل تلك القيمة.

غير أن ذلك الكادح لم يَفْتُر عزمه، ولم تخب همته، وبعد شهور عدة من الإصرار، وجد طريقة منحته فرصة الدخول إلى مجلس الإدارة، فبدأ يشرح مبادرته التي كانت عبارة عن إلغاء الجانب الخشن الذي يشعل أعواد الثقاب، والإبقاء على الجانب الثاني فقط بدلاً من جانبين.. وبينما هو كذلك، لاحظ من يحاولون كتم ضحكاتهم ربما من سطحية الاقتراح، غير أن المجلس ما إن بدأ بتداول الأمر، وعمل الحسابات المالية، حتى مال نحو قبول تجريب اقتراحه.. ثم حدث ما لم يكن بالحسبان، إذ نجحت الشركة في توفير ملايين الدولارات، كان يتم هدرها بسبب إضافة الـ sandpaper أو ورقة السنفرة الثانية.. وهذا مثال حي على أن أفضل الأفكار تأتي من البساطة، ولا يكتب لها النجاح إن لم تجد آذاناً مصغية، وأجود الأفكار تنبثق من أعماق بيئة العمل.

ومن أطرف القصص في صناعة الطعام السريع، أن فكرة وجبة السعادة «Happy meal»، التي اجتاحت العالم من قبل سلسلة مطاعم ماكدونالدز، قد جاءت في أول الأمر كحيلة دعائية gimmick للفت أنظار المسؤولين فيها أواخر السبعينيات. ويحكي أن المدير الإقليمي كان يرغب في تجربة وجبة جديدة للأطفال، فوضعها في علبة كرتونية زينها برسومات مبهجة، تحمل شخصيات وأدوات مستوحاة من أجواء عروض السيرك، كالمهرج وغيره.. وما إن طُرحت الفكرة، حتى استرعت اهتمام الإدارة، فمهدت الطريق لانتشارها الواسع حتى يومنا هذا. ورغم بساطة تلك الفكرة، فإنّه تباع منها نحو مليار وجبة سنوياً حول العالم.. والمفارقة أن وجبة السعادة لم تعد مقصورة على الأطفال، فما زال يطلبها البالغون.

وليست الجدوى المالية معياراً لكل فكرة تصلنا، فبعض الأفكار تدهشنا بإبداعيتها، بينما يمنح بعضها الآخر العميل مذاقاً جديداً من المتعة والفائدة.. منها مثلاً ما يروى عن مضيفة في طيران أمريكي، حينما رفعت سماعة الطائرة وبدأت بتلاوة إرشادات السلامة على الطريقة الصوتية القديمة، فقالت: «ضع قناع الأوكسجين على نفسك أولاً، وتنفس بصورة طبيعية، ثم ضعه على طفلك». بعدها أضافت عبارة اجتهادية بقولها: «إذا كنت تسافر مع أكثر من طفل، ابدأ بالذي ترجو منه عائداً أكبر في حياتك!، فضحك قائد الطائرة والركاب لسماع عبارة غير متوقعة. ثم أكملت المضيفة: «وفي حال لم تحظ بركوب وسيلة نقل أتوماتيكية منذ عام 1960، فإن المضيفين يوضحون لك كيف تضع حزام الأمان».

بعد هذه الطرفة، بدأت شركات الطيران تتسابق في محاولات إبداعية لجذب انتباه الركاب نحو إرشادات السلامة، تارة بأسلوب طريف، وتارة بأسلوب كرتوني أو غنائي، أو عبر استخدام الشخصيات المحبوبة، كاللاعبين والفنانين وغيرهم، بهدف لفت أنظار وأسماع المسافرين نحو ما يمكن أن ينقذ حياتهم.. باختصار، سمحت الشركة للمضيفين بإضافة أي لمسة إبداعية على تلاوتهم لإرشادات السلامة.

كثير من المؤسسات تدفع أموالاً طائلة لمستشارين خارجيين، بحثاً عن فكرة تزيد الأرباح أو تخفض التكاليف، وينسون أن بينهم من الموظفين من يحملون أفكاراً أقرب إلى حاجاتهم وتطلعاتهم، ولا يمكن أن يحدث ذلك في بيئة عمل تفتقر إلى الآذان المصغية، وثقافة احترام المبادرات الخلاقة.. ولنتذكر أن أروع الأفكار أبسطها.