من مزالق النقاش.. الجدل

ليس كل نقاش يقود إلى حقيقة أو أريحية، فبعض الحوارات تولد خصومة قبل أن تصل بنا إلى أرضية مشتركة. هناك فارق بين الحوار والجدل، فالأول أكثر هدوءاً وصدقاً في تناول قضية أو مشكلة معينة، فيما الجدال أكثر حدة ومواجهة، ولا يتمخض عنه بالضرورة حوار بناء.

ويمكن أن يدرك المرء أنه خرج عن جادة الحوار الهادئ إلى الجدال الصاخب، حينما يلاحظ أن محدثه قد بدأ يعارض من أجل المعارضة، أو يلاسن من أجل الملاسنة، ولا يريد أن يصل إلى حقيقة، لأنه جاء أصلاً ليجادل.. ولهذا يوصف هذا النوع من الحوار بالنقاش العقيم، أو الجدل البيزنطي.

وأفضل طريقة للتعامل مع عشاق الجدل، هو التوقف المفاجئ عن محاورتهم.. لكن السؤال هو كيف نعرف صفات هؤلاء المجادلين؟، ذلك أن من علامات المجادل الإفلاس، وهو كثرة ترديده للحجج نفسها، وكأن لسان حاله يقول نفذت ذخيرتي من الكلام المفحم.. هنا، يجدر التوقف عن محاورته، لأنه صار يعيد ويزيد، ومن دون فائدة.

ومن صفات المجادل أيضاً رفضه للأمور البديهية، وكأنه يريد الإمعان في الجدل، وهنا تكمن معضلة الاستمرار بمناقشته.. فمن يرفض أمراً بديهياً لا غبار عليه، أدعى أن يرفض باقي الحجج والبراهين.

ومن علامات المجادل أيضاً، رفع الصوت من دون مبرر، اعتقاداً منه أن رفعه يضفي حجة، لكنه في الحقيقة لا يعني أن صاحبه يتحلى بقوة الإقناع.. ففي كثير من الحالات تكون العلاقة بين الصراخ وقوة الحجة عكسية، والعلاقة بين الطرح الموضوعي والهدوء علاقة طردية.

ومن المشكلات التي نواجهها في التعامل مع المجادلين، أن فئة منهم لا تريد الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، لأنهم لا يكترثون بها.. فتجدهم يتنقلون من فكرة إلى أخرى في أذهانهم، قبل أن ينهي محدثهم كلامه..

بل وتغلب عليهم صفة الاستعجال بالحكم، أو القفز إلى النتائج، كما يقال بالإنجليزية. فالمجادل من أجل المجادلة لا يهمه سوى نفسه، فهو يسمع صوته وآراءه وما يختلج في ذهنه، وينسى أن الحوار في الأصل رحلة البحث عن الحق، من خلال آذان مصغية.

فالأصل في حواراتنا أن نتعلم من خلالها أو نُعَلم، أو نَستوضح أو نُوَضح، أو نرشد أو نُستَرشد. كما أن الحوار أيضاً فرصة لتنشيط الذهن، وتحطيم القناعات وترسيخها، وتوليد الأفكار ونقلها، وتبادل المعلومات أو تصحيحها. والحوار في نهاية المطاف رياضة ذهنية، نتكشف من خلالها مدى قدرتنا على قبول الرأي الآخر، وحسن التفاعل معه..

أما الجدال من أجل الجدال، فهو مضيعة كبيرة للوقت والجهد، ولذا، فإنه من الحكمة أن نلزم السكوت لحظة تورطنا بجدال عقيم، مصداقاً لقول الإمام الشافعي رحمه الله:

قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم *** إن الجوابَ لِبَابِ الشَّرِّ مفتاحُ

والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ *** وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ

أما ترى الُأسْدَ تُخشى وهي صامتةٌ *** والكلب يُخشى لعمري وهو نباحُ.