لا تعرف لماذا بالضبط قررت إدارة الرئيس ترامب مقاطعة قمة العشرين، التي أنهت أعمالها في جنوب أفريقيا في الثاني والعشرين من هذا الشهر؟ صحيح أن الخلافات بين الحكومتين في البلدين ظاهرة منذ مجيء ترامب للبيت الأبيض، ولكنها خلافات لم يكن من المتصور أن تؤدي لغياب الولايات المتحدة عن مجموعة، تحظى فيها واشنطن بمكان أو مكانة لا تنافسها فيها قوة أخرى.
تضم مجموعة العشرين أكبر عشرين اقتصاد في العالم، وإذا كان اقتصاد الولايات المتحدة هو الأكبر في العالم، وبين اقتصادات المجموعة بالتالي، فليس من المتخيل أن تتغيب واشنطن بهذه السهولة عن موقع لا يمكن لسواها أن يشغله.
ولكن إذا عرفنا أن الصين عضو في المجموعة، وأنها الاقتصاد الثاني بعد الاقتصاد الأمريكي، فإن غياب الاقتصاد الأول في مناسبة كهذه لا تنعقد إلا كل سنة تقريباً يؤدي تلقائياً لحلول الاقتصاد الثاني في مكان الاقتصاد الأول، أو يؤدي إلى أن يكون موقع القيادة في الاجتماع من نصيب الصين.
ولا تعرف أيضاً ما حسابات الحكومة الأمريكية في هذا الغياب، خصوصاً إذا كانت تحارب الحكومة الصينية طول السنة، وإذا كانت تدرك مسبقاً أن غيابها لا يفسح الطريق لطرف بقدر ما يفسحه للطرف الصيني المنافس لها بين الأطراف الحاضرة؟
إن غياباً كهذا يغذي الرغبة الصينية في أن تعمل أكثر وأكثر في اتجاه أن تكون الاقتصاد الأكبر، ويشعل طموح الصينيين في هذا الجانب أكثر مما هو مشتعل، ويجعلهم يفركون أيديهم من الفرحة في انتظار أن يأتي مثل هذا اليوم، ويمنح التنافس بين الطرفين طاقة مضافة لصالح الطرف الصيني وهو يجد نفسه في موقف كالذي وجده في اجتماع المجموعة في العاصمة جوهانسبرغ.
ومع ذلك كله فإن اجتماع المجموعة ما كاد ينهي أعماله، وما كاد يصدر إعلانه الختامي المعتاد في نهاية كل لقاء للمجموعة، حتى كان البيت الأبيض قد استبد به الغضب، وحتى كان مسؤول فيه قد وصف ما جاء في البيان الختامي من بنود بأنها أشياء مخزية!
وحين تتأمل ما جاء في البيان تكتشف أنها أشياء عادية لا مخزية، وأنها كلها تتحدث عن التحدي المناخي، الذي يقف في طريق العالم، أو عن ضرورة أن يحل السلام في فلسطين وفي السودان، وفي مواضع أخرى تشتعل فيها الحروب وتستعر.
إن الرئيس ترامب نفسه قال في أثناء زيارة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، إلى العاصمة الأمريكية قبل أيام، إن الأمير دعاه للتدخل لوقف الحرب في السودان، وإنه قرر الاستجابة لطلب ولي العهد السعودي، وإنه سيعمل بجد خلال الفترة المقبلة على وقف هذه الحرب.
قال الرئيس الأمريكي هذا بوضوح وأعلنه على العالم في أثناء زيارة الأمير محمد بن سلمان، فماذا يغضبه إذن إذا كان بيان المجموعة يبني على ما بدأه هو، ويريد للسودان أن يهدأ بعد أن أكلت نار الحرب الأخضر واليابس فيه؟، والرئيس الأمريكي ذاته هو الذي كان قد بادر فأطلق مبادرة لوقف الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة.
وهو الذي كان قد زار شرم الشيخ، ليوقع اتفاق وقف الحرب ضمن مشهد تابعه العالم كله في 13 أكتوبر، فماذا يغضبه إذا جاءت مجموعة العشرين لتتبنى الدعوة للسلام في أرض فلسطين، لعل إسرائيل تتوقف عن خروقاتها، التي لا تتوقف للاتفاق، ولعلها تأخذ الاتفاق مأخذ الجد كما يتعين عليها أن تأخذه.
من الجائز أن يكون سبب الغضب الأمريكي أن بيان المجموعة تبنى قضية المناخ ووضعها في المقدمة من بنوده، ودعا للتعامل معها بكل ما تقتضيه الجدية، وبكل ما تعنيه المسؤولية تجاه العالم وتجاه قضاياه.
هذا جائز لأننا جميعاً نعلم أن من أول القرارات التي اتخذها ترامب بمجرد دخوله البيت الأبيض الإعلان عن انسحاب بلاده من اتفاقية المناخ.
لقد تشاءم كثيرون حول العالم يوم الإعلان عن هذا الانسحاب، وتمنوا لو يراجع الرئيس ترامب قراره ثم يرجع عنه، لأن قضية كقضية المناخ لم تعد ترفاً في عالمنا المعاصر، وقد كان من الوارد أن تكون كذلك في زمن مضى.
ولكن الرئيس الأمريكي لم يشأ أن يراجع قراره، ولا أن يرجع عنه، رغم أن بلاد العم سام تسهم بنصيب يكاد يكون هو نصيب الأسد في تلويث سماء العالم، بحكم ما تضمه على أرضها من صناعات ضخمة للغاية، ولا شيء يمكن أن يصور هذا الغضب الأمريكي غير المبرر من بيان المجموعة النهائي، إلا العبارة التي تصف فلاناً من بين الناس بأنه لا يرحم، ولا يريد لرحمة الله أن تنزل على الأرض.