لا يخفى على أحد اليوم أن علاقتنا بالأشياء لم تعد تنطلق من الدهشة التي كانت ترافق ذهول الاكتشاف الأول للأشياء والأفكار حولنا، بل من شعور ضمني بأن كل شيء معروف مسبقاً.

واللحظة التي يتراجع فيها الانبهار ليست مجرد حالة عابرة، بل علامة على تغيّر عميق في طريقة استقبالنا للتجارب، وكأن وعينا أصبح يتحرك داخل مسار معبّد بالكامل، ولا يمنحنا فرصة الانعطاف نحو اكتشاف جديد!

قبل أيام وصلتني رواية جديدة كانت محل نقاش واسع في المشهد الثقافي، محاطة بتقييمات مسبقة وتعريف جاهز لمسارها الأدبي، وحين بدأت قراءتها، اكتشفت أن هذا الرصيد من المعرفة الاستباقية لا يفتح الطريق إلى النص.

بل يضيق مساحة اللقاء الأول معه، قرأت الصفحات الأولى وأنا أبحث عن تلك الشرارة التي ترافق بدايات القراءة، غير أن ما واجهته لم يستدعِ ذلك الانجذاب الأول، ولم يفتح باباً جديداً للتأمل.

أدركت حينها أن تراكم المعرفة حول العمل الأدبي، قبل الدخول إليه، يخلق طبقة تفصل القارئ عن النص، طبقة هلامية تقلص مساحة المفاجأة، وتحوّل اللقاء مع الكتاب من اكتشاف إلى مقارنة لا واعية بما قيل عنه مسبقاً!

تغيّرت نظرتي للأمور منذ انفتاحي على الفلسفة، فأول عمل روائي فلسفي قرأته كان «عالم صوفي» للكاتب النرويجي جوستاين غاردر، حين تحدث عن الدهشة بوصفها نقطة البدء في كل تفكير حي، حينها بدأت أدرك أن النظر إلى العالم ليس فعلاً تلقائياً، بل ممارسة معرفية تتطلب يقظة داخلية، تغيرت علاقتي بالتفاصيل.

ولم أعد أتعامل مع الأشياء بكونها ثوابت بديهية، بل مساحات تستعيد قيمتها حين ننظر إليها خارج المألوف، ومع الوقت صرت ألاحظ أن أبسط الظواهر-تلك التي نمر بها دون انتباه- تحمل إمكانات للدهشة أكثر مما تفعله الاكتشافات التي تقدم بوصفها أحداثاً كبرى في المشهد الثقافي.

تراجع الدهشة ليس ظاهرة نفسية فقط، بل ثقافية بالدرجة الأولى، نحن نعيش في زمن الوفرة القصوى، وفرة الكتب والصور والأخبار والتحليلات والتجارب أيضاً، كل شيء متاح ومكتمل المعنى حتى قبل أن نلمسه.

وفرط التعرض هذا جعل التجربة مجرد محطة إضافية، لا حدثاً مؤسساً، إذ لم يعد هناك شيء يحدث لأول مرة، فكل مرة هي امتداد لذاكرة رقمية تسبقنا بخطوة، وهو جانب لا نلتفت إليه كثيراً، لأن كثافة المشهد المعرفي تقنعنا بأن الوعي يتوسع بينما هو في الحقيقة يفقد إحدى أهم وظائفه المتمثلة في «عمق الاستقبال».

لقد أثرت هذه التحولات أيضاً في علاقتنا بالفن وبالفعاليات الثقافية، فالفضاءات التي صممت للدهشة كالمعارض والندوات والجلسات وغيرها، أصبح بعضها يمر أمامنا دون أن يضيف طبقة جديدة إلى وعينا.

فأصبحنا نحلل قبل أن نشعر، ونفسر قبل أن نفهم، وكأنما نحمل في دواخلنا جهاز فرز آلي يغربل ما يسكب في وعينا، فنتوقف عن الدهشة، التي اندثرت بفعل الحداثة المفرطة، حتى بتنا نشارك في المشهد لكن التجربة لا ترسخ حضورها في داخلنا، وهكذا يظل الحدث قائماً.

بينما يغيب الانفعال الذي يمنحه قيمته، والأخطر أن غياب الدهشة لا ينعكس على الثقافة وحدها، بل على طريقة إحساسنا بالعالم، فتفقد الأفكار قدرتها على إحداث ذلك التحول الصغير الذي يجعلها تستقر في الذهن، وتغدو اللحظات أقل قدرة على البقاء في الذاكرة، مهما كانت ظاهرياً ذات قيمة.

والسؤال الذي تفرضه هذه المعضلة بسيط وعميق في الوقت نفسه:

هل يمكن للإنسان أن يحافظ على حضوره الداخلي إذا فقد حسه بالدهشة؟

قدرتنا على الانبهار ليست امتيازاً عابراً، بل مقياس على صحة وعينا، وعندما تأفل الدهشة، لا يفقد العالم قيمته، بل نفقد نحن القدرة على قراءته بالصفاء الذي يمنحه معناه الأول، ومن أجل استعادة هذا الصفاء، نحتاج إلى إعادة ترتيب إيقاع الذهن.

والسماح للتجربة بأن تشد الخيط الأول للدهشة، وللتفاصيل بأن تظهر قبل أن نحاصرها بمعارف جاهزة، فجزء من الحل يكمن في إبطاء سرعة التلقي، وخلق مسافة صغيرة بين الشيء وما نعرفه عنه مسبقاً، بحيث يستعيد النص صوته وتستعيد اللحظة عمقها ويتسع وعينا للاحتمالات الكامنة في كل تجربة، فالدهشة في النهاية ليست نقيض المعرفة، بل شرطها الأول.