في عام المجتمع.. تحديات حفظ التراث الثقافي الديني

خلال عطلة عيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا وعلى قيادة دولة الإمارات الحكيمة الرشيدة وعلى مواطنيها وسكانها والأمتين العربية والإسلامية بالخير والعافية والبركات، أتيح لي الاطلاع على دراسة حديثة حول «حفظ التراث الثقافي الديني: التحديات والآفاق»، أعدّها الباحثان الإندونيسيان عيسى أنصاري وديدي أفريادي.

وأحسست أنني أمام مرآة تعكس القلق العالمي لا سيما في جانبه الروحي والديني، الذي هو مرآة للهوية وذاكرة الشعوب.

الدراسة سلطت الضوء على التهديدات الجسيمة التي تواجه التراث الديني في العالم، من تعصب ديني وتطرف أيديولوجي إلى النزاعات المسلحة والتغيرات العمرانية القسرية، وتبين أن خطر فقدان الأحجار والنقوش والأدوات والمباني التراثية، سيؤدي بلا شك إلى خطر أكبر وأعمق وهو اندثار الدلالات الرمزية العميقة التي تشكّل البنية الوجدانية للمجتمع، وسيؤدي إلى ضياع تلك الذاكرة الرمزية، والذي يعني، حسب وجهة نظري، انفصال الإنسان عن جذوره الروحية التي تربطه بالمجتمع، بالزمن، وبالمعنى.

فالتراث الديني أيضاً، شأنه شأن كافة أشكال التراث، لا يُختزل في المعالم الظاهرة بل يسكن في الحكايات، في النشيد، في الإيماءة، في الطقس، وفي تلك المسافة العاطفية بين المكان والذاكرة.

رحت أستحضر طقوسنا الشعبية في دولة الإمارات، تلك التي تحمل في بنيتها شحنة روحية عظيمة، تُصنّف بوضوح ضمن الطقوس والإرث الديني الفريد، وتؤدي دورها الرمزي ببراعة؛ فهي تجسيد حي للارتباط الروحي بالمجتمع، واستدعاء متكرر للزمن الرمزي، واستحضار دائم لما لا يُقال ولكنه يُفعل.

تلك الطقوس التي نمارسها في مواسم الأعياد والأعراس، في الاحتفالات الاجتماعية، في عادات وتقاليد الضيافة، أو حتى في الزيارات والمناسبات، والتي تتحول إلى وعاء حي جامع للهوية، تتماهى فيه الفردية بالجماعية، والذات بالرمز، والحاضر بالماضي.

إنها طقوس تحفظ ما عجزت الكتابة عن توثيقه، وما استعصى على المؤسسات أن تُؤطره، لكنها تواصل اشتغالها بصمت، في جسد الثقافة، وفي وجدان الناس، وفي العلاقات اليومية التي تبدو مألوفة ولكنها في جوهرها طقوس متوارثة، تحمل أسراراً لا يبوح بها إلا الوعي الثقافي العميق.

ما أثار اهتمامي في الدراسة هو دعوتها الصريحة إلى تمكين المجتمعات المحلية من لعب دور جوهري في عملية حفظ التراث الثقافي الديني بوصفهم فاعلين رئيسين في إنتاجه وصونه وإعادة تفسيره.

هذه الرؤية تفتح أمامنا في دولة الإمارات مجالاً واسعاً للتأمل في طبيعة العلاقة بين الإنسان وتراثه، وتطرح علينا مسؤولية مضاعفة تجاه تفعيل هذا الدور المجتمعي ليصبح رافعة حقيقية في معركة الوعي.

فحين يشعر الفرد أن الإرث الذي بين يديه هو امتداد لذاته وتاريخه ووجدانه، فإنه يتحول تلقائياً إلى حارس يقظ لهذا الإرث، وإلى ناقل صادق له، وإلى مبدع قادر على إحيائه في كل ممارسة حياتية، في لغته، في لباسه، في احتفالاته، وفي طريقته في تفسير العالم.

في الإمارات، تتكامل هذه الفكرة مع خصوصيتنا الثقافية التي تجعل من التراث فعلاً يومياً لا يحتاج إلى مهرجانات موسمية ليظهر، بل يتجلى في تفاصيل الحياة، في أساليب الحديث، في الإيماءات الاجتماعية، في المجالس، وفي تربية الأبناء.

من هنا، يمكن القول: إن إشراك المجتمع هو ضرورة ثقافية وفلسفية.

هذا النوع من الحضور الشعبي الفاعل يعزز مناعة التراث في وجه التحديات، ويمنحه قدرة على الصمود والتجدد في آن.

وحين تُدرك الأسرة، وتدرك المدرسة، وتدرك المؤسسات الثقافية أن الأفراد هم المعنيون الأوائل بحماية تراثهم، تتغير أولويات العمل الثقافي من التلقين إلى التمكين، ومن التوثيق البارد إلى الإحياء الحيّ.

هذه الدعوة، في عام المجتمع، تؤسس لفهم جديد لمفهوم الحماية كحالة وجدانية إماراتية مجتمعية تنبثق من الداخل وتُمارس كمسؤولية أخلاقية.

وفي مجتمعات مثل مجتمعنا، الذي ما تزال الروابط فيه قائمة بين المكان والذاكرة، وبين الطقس والانتماء، يمكن لهذا الفهم أن يثمر مبادرات خلاقة، يكون فيها الناس هم الرواة، والحماة، والمجددون في آن واحد.

هذه ليست مثالية مني، بل رؤية استباقية تقتضيها سرعة التغيرات المحيطة، وتستوجبها الضرورة الملحة لبقاء الذاكرة حية وفعالة داخل النسيج الاجتماعي، لا خارجه.

وحين ننظر إلى هذا التحول من زاوية الثقافة الوطنية، نجد أن مهمتنا لا تقتصر على الترميم والتوثيق، إنما تتوسع لتشمل بناء ذاكرة متكاملة تُستثمر في التعليم، وفي السياحة الثقافية، وفي تعزيز الهوية الوطنية.

بهذه الرؤية، يغدو الحفاظ على التراث الديني عملاً تراكمياً حياً، يُسهم في بناء حاضر مستنير بموروث رمزي عميق، ويؤسس لمستقبل مستدام يستمد من الجذور منعته وقوته واستمراره.

دولة الإمارات، بتاريخها، وبقيادتها الرشيدة، وبوعي أبنائها، تمكنت من بناء هذا المشروع الإنساني الكبير، كصاحبة رؤية حضارية ترى في التراث وسيلة لبناء الجسور، وفتح الحوارات، وتكريس السلم الإنساني، وجعلت منه رسالة عالمية، وهذا التراث، حين يُستثمر بأدوات العصر، وتُعاد قراءته بروح نقدية محبة، يتحول إلى مورد تربوي وروحي وجمالي، ويصبح أقرب إلى القلب، وأوثق بالروح، وأكثر قدرة على العبور من جيل إلى جيل.

كل عام ومجتمعنا الإماراتي بألف خير.