فيصل العظمة.. عاشق الكويت ومؤلف كتاب «في بلاد اللؤلؤ»

من المعروف أن دول الخليج العربية في بدايات مسيرتها التعليمية المباركة اعتمدت في تدريس أبنائها على كوادر تربوية من الأقطار العربية الشقيقة، وذلك بسبب النقص الشديد في أعداد المعلمين المحليين المؤهلين، وكانت مصر هي مصدر الجل الأعظم من المدرسين، الذين تولوا تدريس أبناء الكويت والبحرين وقطر والإمارات، يليهم في العدد مدرسون من فلسطين فمدرسون من سوريا، وكذا كان الحال لفترة طويلة في السعودية قبل أن تتأزم العلاقات السعودية - المصرية، وتنقطع البعثات التعليمية المصرية المعارة، ويتم الاعتماد بشكل رئيسي على كوادر تربوية من العراق وسوريا والسودان والأردن وفلسطين وتونس.

ويتذكر الجيل الذي تخرج على أيدي هذه الجنسيات العربية المتنوعة حجم التفاوت لجهة ما زرعته في نفوس الطلبة من قيم، وحجم ما خلفته وراءها من مآثر وذكريات، ناهيك عن تباين درجة إخلاصها واجتهادها، وتفانيها في ما أؤتمنت عليه.

وبعبارة أخرى ترك بعض المدرسين العرب قبل رحيلهم أو عودتهم إلى أوطانهم أثراً لا ينمحي لدى طلبتهم، فظلت ذكراهم متجددة، وأسماؤهم خالدة في النفوس، بينما لم يترك البعض الآخر خلفه شيئاً يذكر، وهناك البعض الثالث، الذي طاب له المقام في الدولة الخليجية، التي استقدمته، فاندمج في مجتمعها، واختلط مع ناسها، وهام بتقاليدها وعاداتها، فخلد ذكراه من خلال التأريخ لسنوات عمله في المنطقة، والتدوين لكل ما شاهده أو سمعه أو لفت نظره من حكايات ومعالم وشخوص وأحداث. وبطبيعة الحال فإن هذا البعض الثالث أسدى بهذا العمل خدمة جليلة للأجيال، التي لم تعاصر حقبة البدايات وظروفها الصعبة، وما كابدته الأجيال السابقة في سبيل العلم والمعرفة.

ما سبق كان توطئة للحديث عن الأستاذ فيصل العظمة، وهو مُربٍ سوري قديم جاء إلى الكويت في أوائل عام 1942 للتدريس في المدرسة المباركية، وأقام في الكويت لمدة عامين دراسيين فقط، ثم غادرها في نهاية العام الدراسي 1943 عائداً إلى وطنه، بسبب حنينه لوالدته، التي لم يتحمل فراقها، ويبدو أنه خلال إقامته في الكويت احتك بالمجتمع الكويتي، وكوّن علاقات اجتماعية واسعة، وتكون لديه انطباع متكامل عن طبيعة الكويتيين وطباعهم وأخلاقهم ولهجتهم، فسجل كل هذه الأمور وغيرها في كتاب، طبعه في دمشق عام 1945 من 213 صفحة من القطع المتوسط تحت عنوان «في بلاد اللؤلؤ».

وبسبب ندرة الكتاب وكثرة الطلب عليه تمّت إعادة طباعته في كتاب أنيق عام 2020، بعد أن قام بتحقيقه الدكتور أحمد بكري عصلة (1953 ــ 2021)، وهو أيضاً سوري من مواليد حلب.

تحدث العظمة في كتابه «بلاد اللؤلؤ»، عن طائفة من المواضيع بدأها بسرد قصة انتقاله من دمشق إلى الكويت، قبل أن يتناول جغرافية الكويت وسكانها وتاريخها وأبرز شخصياتها ووسائل مواصلاتها، وأوضاعها السياسية والاجتماعية والثقافية والعمرانية ومهن أهلها.

كما تحدث فيه عن لقائه بالشيخ أحمد الجابر الصباح (1885 ــ 1950)، فوصف سموه بأنه شخصية مهابة وأنيقة ومثال للطف والكياسة، علماً بأن سموه، بعد أن قرأ كتاب العظمة عن الكويت على أثر صدوره في دمشق، أعجب بمحتواه كثيراً، فكلف أمين سره، ومرافقه الأستاذ عزت جعفر بحمل رسالة شكر وتقدير إلى المؤلف.

لم يكتف العظمة بعد مغادرته الكويت بتأليف كتاب عنها فحسب، وإنما دفعه حبها لهذه البلاد وأهلها إلى مراسلة مجلة «البعثة» الكويتية الصادرة في القاهرة، حيث يتبين من مراجعة أرشيف هذه المجلة، التي كانت لسان حال طلبة الكويت المبتعثين إلى مصر، أنه نشر فيها ثلاث مقالات ما بين عامي 1951 و1952، كما أنه نشط بالتعريف بالكويت في زمن ما قبل استقلالها ونهضتها من خلال المحاضرات والندوات والأحاديث الإذاعية، ففي مقال له تحت عنوان «صورة كويت الأمس» نشرته له مجلة البيان الكويتية في مارس 1968م كتب قائلاً: «كانت حياتي في الكويت حلوة مع ما كان فيها من خشونة وبساطة، فقد قدمت إليها في ستة أيام بالقطار عبر سوريا وتركية والعراق لأخدم قطراً كنت وما زلت أؤمن أنه بؤبؤ عين الوطن العربي الأكبر، وقد وفقتُ خلال المدة، التي أقمتها في الكويت إلى القيام بواجبي في غرس الإيمان القومي في النفوس البريئة، وفي تنشئة جيل قومي في عقيدته وخلقه، وجسمه مؤمن بوحدة أمته العربية، ونبل رسالتها الإسلامية.

وتجلى ذلك في الأناشيد التي نظمتها، والتي كان ينشدها الشباب الكويتي من كل مكان وينطق بها كل لسان، وفي مواكب الكشافة التي كانت تموج فوقها الأعلام العربية في مخيمات الطلبة والمعلمين، وفي استعراضات الشباب والمهرجانات الرياضية والمعرض المدرسي والتمثيل المدرسي والحفلات الخطابية والأعياد الإسلامية والوطنية، وفي الرحلات والدروس والمطالعة الليلية.

وكنت في الوقت نفسه على اتصال دائم بالناس من كل الفئات: الشيوخ والعلماء والأدباء والتجار والمعلمون والطلبة»، ثم أضاف: «ولما عدتُ إلى سوريا أخذت أتابع فيها خدماتي للكويت وللفكرة العربية، فكتبت معرفاً بهذا البلد الناهض الشقيق، وألقيتُ عنه أحاديث في الراديو ومحاضرات في دمشق وحلب، أكبرها المحاضرة التي ألقيتها في بهو المجمع العلمي العربي بدمشق، ما كان له أطيب الأثر في نفوس الناس، ثم توّجت هذه الجهود بكتابي «في بلاد اللؤلؤ»، والذي أصبح مرجعاً لبعض المحاضرين في الجامعات ولبعض المؤلفين والباحثين».

وعن آخر أنشطته لصالح الكويت كتب: «آخر خدماتي للكويت وللفكرة العربية، التي تقتضي تعارف وتقارب الأقطار العربية كان الاحتفال الضخم، الذي نظمته في دمشق عام 1964 في عيد استقلال الكويت، وفيه خطبتُ وخطب السفير الصديق مهلهل المضف، وعرضنا فيلماً سينمائياً عن نهضة هذا البلد الطيب.

وما زلت أتذكر بلدي الكويت وإخواني الكويتيين، وقد قدر الكويتيون وفائي لهم وحبي لبلدهم، فكتبوا لي بالمئات شاكرين، وعلى رأسهم أمير الكويت الراحل الشيخ أحمد الجابر الصباح، وأتوني بالعشرات زائرين، وعمدتْ وزارة الإرشاد (الإعلام) إلى دعوتي لحضور أعياد الاستقلال عام 1962، ولبيت الدعوة شاكراً، وأقمت في الكويت أياماً قليلة، سعدتُ فيها برؤية العلم الكويتي يرفرف حراً في وطن حر طالما رفعتُ صوتي داعياً لحريته، وأنست فيه بلقاء الأصدقاء من أمراء وعلماء وأدباء، وعلى رأسهم الشيخ صباح الأحمد الجابر، وزير الإرشاد آنذاك.

وقد سررتُ لما شاهدتُ في الكويت من مظاهر النهضة في شتى نواحي الحياة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعمرانية والفنية والثقافية والصحية. وسرني أني رأيت الكويت لا تخطو إلى الأمام خطوات وإنما تقفز قفزاً، فحققتْ أكثر مما كنتُ أتوسم فيها، من أخذها بيد الأقطار الشقيقة في الجنوب والخليج، وفي دعم القضايا العربية في كل مكان».

وقد توقف الباحث والمؤرخ الكويتي الأستاذ عادل العبدالمغني، الذي يحتفظ بنسخة نادرة من الطبعة القديمة لكتاب «في بلاد اللؤلؤ»، عند ما كتبه العظمة عن أخلاق الكويتيين العربية والإسلامية، مشيراً إلى قوله: «الكويتي لا يتزلف، ولا يرجو، لأن نفسه عزيزة عليه، فهو عربي، والعربي لا يهون، والكويتي مع صراحته فهو لطيف ومهذب، وهو في حديثه يقول لك: طال عمرك والله يسلمك، وإذا أعجبه منك شيء قال: أحسنت، وإذا قلت له: مشكور رد عليك بعبارة: ممنون، وإذا طلبت من أحدهم شيئاً قال: أمرك، وإذا أوصيته بشيء قال: حاضر، وإذا أراد نفي الشيء قال: سلامتك».

وفي الفصل الذي تحدث فيه العظمة عن سكان الكويت وقت عمله في مدارسها نجده يقول: «الأكثرية الساحقة في الكويت هي من نجد وقليل منهم أتوا من بلاد فارس، ويبلغ عدد سكان الإمارة 110 آلاف، منهم نحو 80 ألف في مدينة الكويت، التي بداخل السور، وعشرون ألفاً في القرى، وعشرة آلاف في البادية».

وعن المياه ومصادرها وشحها ومشاكلها كتب: «الأمطار في الكويت قليلة، تهطل في فصلي الشتاء والربيع، وتأتي من المحيط الهندي ومعدلها 100 -150 مليمتراً، وإذا جادت السماء بالغيث ارتوت الأرض واخضوضرت، وأضحت الصحراء بساطاً من زبرجد، وتشكلت الغدران التي تشبه البحيرات، وامتلأت الآبار والصهاريج، ونصبت الخيام في كل مكان، وخرج الناس من بدو وحضر إلى البر، ينعمون بالجو اللطيف والأرض المخصبة، وإذا كانت الأمطار قوية قد تلحق بالبيوت بعض الأضرار، فتهدم بعضها، لأن البيوت هناك مبنية من الطين على الأغلب، كما حدث عام 1289 هجرية، فقد تهدمت مئات البيوت والدور، بسبب شدة الأمطار، فسميت سنة الهدامة».

ثم أضاف: «أما الأمطار الحلوة التي يمكن الشرب منها فقليلة، وماؤها لا يكفي عُشر السكان، لذلك يجلب الكويتيون ماء الشرب بالسفن الشراعية من شط العرب على بُعد 130 كيلاً تقريباً. وتتولى ذلك شركة وطنية، رئيسها الشيخ عبدالله السالم، وصاحب فكرتها يوسف الغانم، ورأسمالها نحو ثلاثمئة ألف روبية، وتمتلك أربعين (بوماً) ــ سفينة شراعية كبيرة ــ وهذه المسافة تقطعها السفن بست ساعات إلى يومين، حسب ملاءمة الريح.

وفي كل يوم تذهب سفن، وتعود أخرى لجلب الماء، وفي كل سفينة عدة مكعبات من الخشب تسمى (تانكي) مقلفط ما بين ألواحها تملأ من ماء شط العرب الزلال، وتفرغ في الكويت بواسطة مضخات تتصل بأنابيب تتصل بخزانات خاصة (برك) على السيف (الشاطئ)، وفي الكويت خمس برك من الإسمنت، نظيفة ولها صنابير، ومراقبة صحياً تتسع لنحو أربعة ملايين لتر، ويباع الماء بأسعار رخيصة، فثمن كل (قوطي) أي صفيحة (آنة) أي نحو فرنك سوري، ويتولى نقل الماء في البلدة سقاة يسمى الواحد منهم (كندري)، أو (راعي الماي)، وهو ينقل الماء إما بجرب أي قرب على ظهر الحمار، وإما بصفائح يحملها على خشبة (كندر) على كتفه.

والكويتيون يصفون الماء في (الحب) وهو وعاء من الفخار البغدادي المعروف، مؤلف من قسمين، واحد يُسمى (ناقوط) ويشبه الزير عندنا قديماً في دمشق، ويوضع على كرسي من الخشب، فيرشح منه الماء على وعاء صغير اسمه (قلة)، وبذلك تشرب ماء صافياً».

وتطرق العظمة في كتابه أيضاً إلى موقف حرج حدث معه حول اضطراره لأكل الجراد، حيث كتب قائلاً: «في الكويت يؤكل الجراد ويمون من العام للعام، كما نمون نحن القمح، فترى في كثير من الدور أكياس الجراد، وثمنه غالٍ نسبياً وقريب من سعر اللحم، فتباع الأوقية منها بأربع روبيات أي ثلاث ليرات سورية»، ومضى يقول في السياق نفسه مستغرباً أن الكويتيين يعتبرون السنة، التي يكثر فيها الجراد سنة خير ويمن وإقبال، بينما نعتبره في سوريا سنة نحس وشقاء، ومجال الغرابة هو أن الجراد يأكلنا في سوريا، بينما في الكويت يأكلونه، ثم شرح لنا حكاية تذوقه الجراد لأول مرة مرغماً فقال ما مفاده أنه كان ذات يوم مدعواً على العشاء على مائدة الأستاذ خالد المسلم، فراح الأخير يدور على الضيوف بصحن من الجراد، وحينما وصل الصحن إليه رفض أن يتذوق الجراد، لكن المضيف أقسم عليه أن يجرب، «فأطفانا الضوء، وقطعنا رأس الجراد وأرجلها، وقلنا: بسم الله، وفي سبيل الله».

ومن الطرائف الأخرى التي أتى على ذكرها ما حدث بينه وبين أحد تلاميذه، بسبب فوارق اللهجة، فقال: «أذكر أنني حينما دخلت المدرسة، جاءني تلميذ وقال: ملا، شبدي يعورني، فحملقت فيه وقلت له بلهجة دمشقية مستفسراً: شو؟ فلم يفهم، وقال: الله يسلمك شبدي يعورني، فلم أفهم فقلت في نفسي هو عربي، فكلمه باللغة الفصحي التي تعلمتها في المدارس، وقرأتها في الكتب، فقلت له: ماذا تريد؟ تكلم وأخرجت لساني! فلم يفهم، وظل يردد (شبدي يعورني)، فناديت الخادم وسألته فقال: (الله يسلمك يقول شبده يعوره)، فضحكت، وسألتُ أحد المعلمين قال: شبده يعوره يعني بطنه يوجعه، فأطلقت سراح المسكين للحال، ولم يمضِ عليّ أسبوع حتى صرت أتكلم مثل الكويتيين».